أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

كورونا والحرية – بقلم:عبد المجيد بنمسعود

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
كورونا والحرية
بقلم:عبد المجيد بنمسعود


إن مما أدركه الناس في زمن كورونا، التي حلت بربوع العالم منذ ما ينيف على نصف العام، أنها كانت خليقة بترك بصماتها الواضحة على كثير من المفاهيم والتصورات، تثبيتا وتعميقا، أو ضبطا وتصحيحا. فكان من شأنها، بفعل ما خلفته من آثار ملموسة مست واقع الناس في الصميم، أن تمثل آية من آيات الله في الأنفس والآفاق، التي وعد الله عز وجل بإراءتها خلقه في هذه الحياة الدنيا، لتكون برهانا ساطعا ينتفع به أولو الألباب من المؤمنين، فيزدادوا ثباتا على الحق، وتكون حجة على الجاحدين المنكرين، ممن يمنعهم كبرهم وعنادهم من الانتفاع بها والإذعان لسلطان من أرسلها، ونصبها، رحمة منه سبحانه وتعالى، وإقامة لحجته، ليحيى من حيي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.يقول الله سبحانه وتعالى:” قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (يونس:101).
وإن من أبرز المفاهيم التي كانت كورونا بجولاتها وصولاتها، قمينة بتصحيحها في الأذهان، وتجليتها في الوجدان، مفهوم الحرية. فقد ظل خلق كثير من الناس مقيمين على فهم فج وخاطئ لمعنى الحرية، وظلت نتائج ذلك الفهم السقيم، تعبر عن نفسها في ممارسات طائشة ومنحرفة، بما تخلفه من فساد وتدمير على مستوى الكون والمجتمع، ومن اضطراب وتصادم يصيب العلاقات الاجتماعية بالتمزق والتلف، ويفقد الحياة الإنسانية رواءها وبهجتها، ويلقي بالناس في هاوية سحيقة من التشرد والحزن والشقاء.
إن تهافت دعاوى السطحيين حول مفهوم الحرية، من منظور الاستدلال المنطقي الذي يسلم به العقلاء، أمر مسلم وثابت، ولا مجال فيه للمماراة والجدال العقيم، غير أن غلبة الغوغائية والأسلوب السوفسطائي على تناول مفهوم الحرية وغيره من المفاهيم الفلسفية ذات البعد السلوكي والعلائقي، من شأنها أن تشكل حجابا كثيفا بين العامة، وبين إدراكهم لتلك المفاهيم على حقيقتها، مما يشكل عامل تشويش للأفكار، وعنصر تسميم للمناخ الثقافي السائد في المجتمع، بما ينجم عن ذلك من انحراف سلوكي، واضطراب علائقي، يشكل عائقا حقيقيا في طريق تطور ذلك المجتمع نحو الأفضل.
ولن يغير هذا الوضع الراكد، والسادر في الغي الفكري، والانحراف المفاهيمي، إلا أحداث ضخام، من شأنها أن تزيح الحجب الكثيفة، وتكسح ركام الأباطيل الذي ظل يجثم على الواقع الثقافي لآماد متطاولة، ولدت قسوة في القلوب، وتحجرا في العقول، فيكون لا مناص من صحوة للفكر، تراجع ،بموجبها، فئة من الناس الغافلين موقفها من كثير من المفاهيم، مصححة ما كان يعشش في عقولها من أخطاء ومغالطات، فتؤوب إلى جادة الصواب، مما يسهم في ضبط تيار الفكر الراشد، والثقافة البانية.
وإن مما لا شك فيه، أن حلول كورونا بعالم الناس، هو من تلك الأحداث الضخام، والظواهر الجسام، التي كانت كفيلة بتغيير وجه العالم، ليس على مستوى حركة الناس ومعايشهم، وإنما أيضا – وهو الأهم – على مستوى تفكيرهم ونوعية فهمهم وتصورهم للإنسان والعالم والمصير، كل ذلك في ارتباط بنقدهم وتجديدهم لما كانوا عليه من مفاهيم وتصورات وقناعات.
إن مفهوم الحرية – باعتباره من المفاهيم المركزية ضمن الجهاز المفاهيمي الذي يدخل في عملية بناء الشخصية الإنسانية على شاكلة معينة، تكون رهينة بنوعية السمات الدلالية التي تنسب لذلك المفهوم- قد نال حظا كبيرا على صعيد الخلخلة وإعادة النظر، من أجل رده إلى نصاب الحق والمنطق السليم في أذهان الناس، بفعل ما مثلته كورونا من قوة قاهرة، وما ولدته من ردود أفعال قسرية، لم يكن للناس عهد بها، أو بما يقاربها عبر العصور.
يعلم الناس أن مفهوم الحرية الذي ظلت فئات ممن ضلوا عقديا وفكريا، تردده وتلوكه بقدر كبير من البلاهة والاستهتار، هو الفعل الطليق من أي سبب أو تأثير، فلا يفتأ هؤلاء يرددون قولهم في مواجهة سافرة للمجتمع: نحن أحرار في سلوكنا، ولا أحد من حقه أن يضع أمامنا ضوابط أو قيودا، وإلا بطل أن نكون أحرارا على الحقيقة، وهم بهذا يضربون عرض الحائط بالدين وأحكامه وقيمه، وبالأعراف والتقاليد، وينزعون إلى الانسلاخ مطلقا عن أي شرط من شروط الوجود الاجتماعي الذي نشأوا في أكنافه، وترعرعوا بين أحضانه.
قالها المجاهرون بالإفطار في رمضان، المطالبون بأن يتركوا وشأنهم في خرق سفينة المجتمع، وقالها المطالبون بتقنين إجهاض الأجنة الناتجة عن الزنا، وقالها كل من سولت له أهواؤه ونزغاته الشيطانية أن يحدث خرقا من الخروق في سفينة المجتمع، يتعلق بشأن من شؤونها مما ينبغي أن ينضبط بقانون الإبحار، وما يرتبط به من شروط السلامة الضامنة للوصول إلى بر الأمان.
وإنك لو ظللت الدهر كله تحاول رد هؤلاء عما هم عليه من أوهام، يعتقدونها أفكارا وقناعات فكرية، وما هي بذلك في شيء، لما استطعت أن تزحزحهم عنها قيد أنملة، ولكن كورونا قطعت لسان كل معاند لجوج، كما قطعت جهيزة قول كل خطيب.
إن منطق أدعياء الحرية منطق واه ومهزوز، لأن فعل مطالبتهم بالحرية، هو في حد ذاته دليل على أن حجتهم داحضة، فهي تحمل نقيضها في جوفها، إذ لو كانوا أحرارا لما طالبوا المجتمع بمجال أوسع للحرية، فإن ذلك يعتبر دليلا على أن مفهوم الحرية، فضلا عن كونه نسبيا على كل حال، فإن التعامل الرشيد معه رهين بجملة من الشروط والقيود ، ومن الضوابط والحدود، التي تجعل الفعل الإنساني مؤسسا على الحق، منسجما مع مراد الله في هذا الكون، محميا من كل ما يدخله في دائرة العبث والفساد.
وبغض النظر عن هذا الدليل المنطقي الصريح – الذي يكفي العقلاء للتسليم بنسبية مفهوم الحرية، وضرورة تخليصه من عبث العابثين، وتهافت المتهافتين- فإن الواقع الذي صنعته كورونا في دنيا الناس، يعتبر حجة ساطعة، ودليلا صارخا على أن القائلين بالمفهوم الفج والسطحي للحرية، يحسن بهم أن ينكسوا رؤوسهم خجلا مما أتوه من ترهات وحماقات، وأن يضربوا عرض الحائط بمقالاتهم الممعنة في السفاهة والشطط، والبعد عن أدنى حدود التفكير الرشيد.
ألم تكن كورونا سببا في حبس الناس في بيوتهم في مرحلة حجر صحي، أذعنوا لها صاغرين وجلين، من أن تنالهم قرونها بسوء؟ ألم ترغمهم على إغلاق ما له صلة بمعايشهم، من مرافق ومصانع ومؤسسات؟ فدخلوا جراء ذلك في دوامة من العوز والخصاص، ومن الشظف والإمحال؟ ألم تتحول جموعهم إلى تفاريق وأشتات؟ ألم تكرههم كورونا على هجر بعضهم البعض، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا سبيلا إلى معانقة من يحبون، وإذا فعلوا ذلك تجاوزا، فعلى خوف من كورونا أن تصيبهم بسوء؟ وتقلب صحتهم سقما وهدوءهم ارتياعا واضطرابا؟
ألم تفرض كورونا على الناس، أن يطبقوا قاعدة ” لا مساس”، جراء ما ركبهم من خوف، واعتراهم من وسواس؟
ألم تكمم رجالهم ونساءهم، على قدم المساواة؟ توقيا من أن تخترق خياشيمهم وحلوقهم، ثم تنفذ إلى رئاتهم لتفعل بها الأفاعيل؟
ألم تنصب كورونا الحواجز والمتاريس بين المدن والمناطق والجهات عبر تراب الوطن، بدافع من مزيد تدفق وانتشار، فبات الناس جراء ذلك في هم ونكد، وفي جمود وانكسار؟
ألم تتربع كورونا على عرش الإعلام، وتصبح حديث الصغير والكبير، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم؟ ألم تجتح بموجاتها العاتية المدن والحوضر، والمداشر والقرى، وتنشر في ربوعها الموت الزؤام؟
بلى، إن كل ذلك وأكثر، فعلته كورونا، ولا تزال تمسك بالزمام.
والأدهى والأمر في هذا النزال الذي يجري بين كورونا وبني الإنسان، أنه يجري بين كائنات ظاهرة مرئية، وكائنات خفية متخفية، فأنى للظاهر أن يطاول الخفي، وهو بأمره جاهل، وعن حقيقته غافل؟
ألم تشكل كورونا ضربة قوية لمنكري الغيب، ممن يشترطون للاعتراف بالظواهر والأشياء، أن يروها رأي العين، وأن يلمسوها بأيديهم، من باب المماحكة والعناد، لأن مشكلتهم مع الحقيقة هي أعمق من ذلك، وهذا ما حكى عنهم الله عز وجل في كتابه العزيز مدينا فعلهم في قوله سبحانه وتعالى:” وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا “أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا” ( الإسراء: 90- 93).
ويكشف الله عز وجل عوارهم العقلي، واختلالهم المنطقي، وتحجرهم وجمودهم المعيب، في قولهم تعالى:” وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( الأنعام: 7).
إنه من الواضح لكل لبيب، أن كورونا من خلال سلوكها غير القابل للضبط والتحديد لحد الآن، والذي يفرض أسلوبا خاصا من التعامل، يتميز بالمطاوعة والمجاراة، طلبا للنجاة، وإيثارا للسلامة، إلى الحين الذي يفتح فيه لبني الإنسان منفذ لفهم طبيعة كورونا، في سياق كدحهم، الذي لا يجوز أن يقتصر على جانب الكشف العلمي، وإنما لا مناص من تجاوزه إلى بذل أقصى الجهود الفكرية والنفسية، من أجل التصالح مع سنن الله في خلقه، والتجاوب مع مراده سبحانه فيه، وهو حصول ذلك التطابق والانسجام، بين آيات الله في كتابه المنظور، وآياته في كتابه المسطور . ففي سياق هذا المنظور الكلي العميق، ينبغي أن تفهم حرية الإنسان في هذا الكون، وفي خضم هذا الوجود.
لقد جاءت كورونا لتدفع بالعقلاء إلى جعلها فرصة للتصحيح، وفرصة للتحرير والتنوير، فإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ومما لا شك فيه أن سلطان كورونا قد برهن لأدعياء الحرية في مفهومها السطحي الفج، أن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يرتقي بهذا الأسلوب السقيم، ولن يبرح مستوى البهائم السائمة، التي تفتقد إلى نور العقل ونور الوحي.
إن المعادلة الصعبة في هذه المشكلة، أو الرهان الصعب، ليتمثل في مدى قدرة الإنسان على تمثل الحقيقة العقدية الكبرى، التي تكشف عن أن أرقى وضع للحرية يبلغه الأنسان، وتبلغه الحضارة الإنسانية، ليس هو الذي يطلق فيه العنان لأهوائه وغرائزه ونزواته، متمردا على الله ومنهجه وشرعه، وإنما هو الوضع الذي يحقق فيه مطلب الخضوع لشرع الله، والانسجام مع حكمه ومراده.
وجدة في 08 محرم 1442 – 27 – غشت – 2020

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock