أخبار محليةأخبار وطنية - دولية

كورونا والحاجة إلى الدين( تعقيب على مقال الدكتور إبراهيم أبو محمد : ماذا وراء استدعاء الأوروبيين للدين في عصر “كورونا”؟

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
كورونا والحاجة إلى الدين( تعقيب على مقال الدكتور إبراهيم أبو محمد : ماذا وراء استدعاء الأوروبيين للدين في عصر “كورونا”؟)
بقلم عبد المجيد بنمسعود
نشر للدكتور إبراهيم أبو محمد،( عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومفتي عام القارة الأسترالية)، بموقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مقال قيم تناول موضوعا حيويا وذا أهمية بالغة، ويمكن اعتباره من القضايا المركزية، التي كان وباء كورونا كفيلا ، ليس بكشفها أو إثارتها- لأنها قضية لصيقة بالإنسان، لا يمكنه الانفكاك عنها – ولكن بإخراجها إلى الواجهة، من تحت ركام الغفلة والنسيان، ومن تحت أكوام العقد والغرور والجهالات، التي شكلت حجابا سميكا على العقول والبصائر، بفعل ما ولدته الأوهام، لإنسان المدنية الغربية – ثم بالتبع لمن لف لفه في هوامش الاستعباد والاستلاب – من إحساس خادع بإمكانية الاستغناء عن الدين، بما أتيح له من فرص الوصول إلى ما اعتبره امتلاكا لناصية العلم، وثماره من منجزات التكنولوجيا، فراح يتيه ويفخر، ويتأله ويتجبر، ويمعن في العربدة والطغيان، ويظن بأنه بات يتربع على منصة الكون، ويمارس ما هو من خصائص الألوهية، كالأمر والنهي، والتشريع والتقنين، والحساب والعقاب.
فما فعلته كورونا في هذه القضية، لم يكن إلا بمثابة رجة قوية، بل زلزال عنيف، أزاح ذلك الحجاب السميك من على أعين الغربيين، فأصبحوا وجها لوجه، أمام حقيقة أنفسهم باعتبارهم كائنات عادية، بما هي موسومة به من خصائص الضعف والعجز، فلا علاقة لوضعهم في هذه الأرض، بمفهوم السوبرمان الذي يستلهمونه في تصرفهم مع من يحيط بهم من مخلوقات العالم وكائناته، إلا من باب التخرص والوهم الذي تولده حالات الرخاء، والترف والوفرة، على مستوى المتاع الدنيوي، وهو ما يكشف عنه قوله تعالى:” إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ : يونس: ( 24)،
نعم لقد وقعت هزات في الماضي، في بلاد الغرب، نتج عنها تقويض دعائم الاقتصاد، ونقص في الأموال والثمرات، بل وفي الأنفس بسبب الحروب المدمرة الهوجاء، التي فتكت بعشرات الملايين، وتركت أوروبا قاعا صفصفا، وأرضا يبابا تنعب فيها البومة، و تنعق فيها الغربان، وتخيم عليها المآتم والأحزان. ثم نهضت أوروبا من تحت الرماد والأنقاض، لتعيد بناء ما انتقض، في إطار من رص الصفوف، استلهاما للعبر، واستعادة للرشد الدنيوي، بدافع غريزة حب البقاء، واستعادة المتاع.
غير أن الذي حصل بسبب كورونا، وإن كانت له قواسم مشتركة من حيث الخسائر ومظاهر النكبة، مع ما سبق من هزات، يتميز بميزات أخرى لم تكن في السابق، ذلك بأن الأزمات التي وقعت وما تولد عنها من حروب، مرتبطة بطبيعة النظام الرأسمالي الموسوم بالشراهة، والنزوع دوما إلى التكديس المادي، واستخدام آليات التوحش والعدوان، مستلهما المبدأ المكيافيلي الذي تبرر بمقتضاه الغاية الوسيلة، في سلوك حيواني، يطبعه الافتراس الذي لا مجال معه لإنسانية أو رحمة.
فزعماء الغرب، كانوا يدركون ويعون،بأن ما وقع لهم من نكبات، ومن خراب، وقع بما صنعته أيديهم، وحاولوا استدراك ما يمكن استدراكه، بمجرد ما وضعت الحرب أوزارها.
أما قصة الغرب مع كورونا فشيء آخر، فقد مثلت هذه العاتية دور البطل الذي لا يقهر، ويربك في استراتيجيته كل الحسابات، ويبطل كل التكهنات، ويمحق كل المكتسبات، بدم بارد، وبدون إسالة للدماء، وبدون استخدام لا لمدافع، ولا لطائرات ولا دبابات، وهنا يأتي عنصر الغيب الذي ظل الغرب يمعن في حجبه وتغييبه، بمختلف الوسائل والحيل، فرغم جميع التحاليل والمزاعم والتخرصات، ما كان للغرب الجاحد الشارد، إلا أن تنكسف هامته، وتنكسر قامته، فيعترف بعظمة لسانه، والهلع يجتاح كيانه، بأنه أمام شيء زئبقي غريب الأطوار، لا مجال للإمساك بتلابيبه، فبالأحرى القبض عليه، أو محاصرته و تقييده. فراح يتخبط وسط الجثث والأشلاء، ويندب حظه، ويصرخ ويولول، دون أن تسنح له فرصة لعقد اتفاق صلح أو هدنة مع كورونا، أو عقد اجتماع طارئ تحضره الدول الأعضاء الدائمة في مجلس الأمن، أو اللجوء إلى وساطة، أو مساعي حميدة توكل بها أطراف خارجية، أو قوات خاصة لحفظ السلام، لا شيء من ذلك في الإمكان، فكورونا صاحبة القرون والتيجان، ممهورة مأمورة، ممن خلق الإنس والجان، والجبال والبحار والخلجان، والقمل والدم والضفادع والديدان، والفيروسات والحيتان، من صاحب العزة والجبروت، والملك والملكوت، من العزيز الجبار، الرحيم الرحمن.
هنا في هذه اللحظة بالذات سنحت ظواهر وظهرت آيات، وتبخرت الأكاذيب والترهات، وتعالت الزفرات والآهات، وبرزت النذر والآيات: ” لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ” (هود:43). في هذه اللحظة بالذات، في خضم الوضع العصيب، وعصف الرياح الهوج، وهزيم الرعود، ، حين كشرت كورونا عن أنيابها السود، وبدأت تنقع الأجسام المرشحة للموت بسمها الزعاف، في المدن والأرياف، وتضرب عرض الحائط بالاتحادات والأحلاف، وتهزأ بالخنازير الأجلاف، هنا انقشعت الغشاوة وصحصحت الأذهان، وسمح لمسلمي الغرب برفع الأذان.
إذن هي لحظة عابرة، ولكنها ذات معنى ودلالة، إنها لحظة وعي، لا يستهان بها إزاء صلف الغرب ورعونته، وكبريائه الزائفة، مهما يكن من أمر الغربيين، عندما ستمسك كورونا- بإذن الله – عن شن الغارات، وتعود إلى مواقعها الخلفية، وقواعدها الخفية، وهي تسبح بحمد الواحد الديان.
ليس من البعيد أن ينكس الغربيون على رؤوسهم، بل إن هذا هو الراجح، بعد أن تجنح كورونا إلى الهدنة على غير اتفاق مسبق، فيصدروا أوامرهم إلى المؤذنين بأن لا يعودوا إلى رفع أصواتهم بالأذان. ومعنى هذا أن “تعود ريما إلى عادتها القديمة”، كما ختم الدكتور إبراهيم أبو محمد مقاله.
لكن الذي لا ينبغي أن يغرب عن بالنا في المشهد الغربي، في ظل فتوحات كورونا المظفرة، هو ما يتعلق منه بالشق الشعبي، المتعلق بالأجواء الروحانية التي صنعتها كورونا من خلال الموت الأسود الرهيب الذي قرع القلوب وفرق الصفوف . ألم نشهد اصطفاف الإيطاليين ذكورا وإناثا بأزيائهم العادية، وراء المسلمين وهم يصلون ويجأرون بالدعاء؟ بلى لقد وقع ذلك، وربما في أماكن أخرى، بالإضافة إلى إشارات هنا وهناك، من قبيل عزف أناشيد إسلامية في قلب بعض الكنائس، بالوسائل التي تقام بها القداسات النصرانية؟ إن هذه المشاهد الدالة، لمما سيترك خطوطا وآثارا على صفحات النفوس، بقدر من الأقدار، وقد تؤتي أكلها بعد حين بإذن ربها.
وهنا بودي أن أقف عند ما انتهى إليه الدكتور إبراهيم أبو محمد، عندما قال:
“وإنما الذي يحتاج ـ في نظري ـ إلى مزيد من الدراسة والتحليل هو قضية الدين وحاجة الناس إليه من ناحية، ثم دراسة مجتمعات الغرب وصلتها بالدين من ناحية ثانية، وذلك إذا أردنا أن نجمع أجزاء الصورة المعرفية المبعثرة لطرفي القضية بعيدا عن التهويل والمبالغة وحماس العواطف”.
وهنا أقول بأن مسالة حاجة الناس إلى الدين مسألة محسومة، لأنها فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:” إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا” (صحيح مسلم : كتاب الجنّة وصفة نعيمها ( ح5109 ) وإنما الذي يحتاج إليه، هو كيفية إدخال الناس إليه وفيه،( الدين)، وجذبهم إلى رحابه ، أي تهيئ الشروط الاجتماعية والنفسية والتربوية والثقافية، لدخول الناس في دين الله أفواجا.
ما أريد قوله هنا في سياق مناقشة ما طرحه الدكتور إبراهيم أبو محمد، هو أن استثمار التأثير الذي خلفه فيروس كورونا المستجد، ينبغي أن يكون على مستويين اثنين يتكاملان في وظيفتيهما، مع تفاوت في وقع ونتائج كل منهما.
وأما المستوى الأول، فيتعلق بانشغال واشتغال مسلمي المهجر، على قضية الإسلام في صفوف الغربيين، من خلال رؤية عميقة تستند إلى فهم دقيق لحالة التدين لدى هؤلاء، تسعفهم في إعداد الآليات المثلى، والطرق والأساليب الناجعة الكفيلة بجذبهم إلى الإسلام، وتحبيبهم فيه. وبلوغ هذا الهدف، يحتاج إلى إصلاح هيئة القيادات الفكرية والزعامات الدعوية، وتجاوزها لما تشكو منه من مثالب وعيوب وتناقضات، ثم تسعى إلى ضبط إيقاع التيار الإسلامي وسط عامة المهاجرين، في إطار الوسطية والاعتدال، حتى يمثلوا القدوة الصالحة، والنموذج الناصع والساطع أمام الغربيين، لأن النماذج الضعيفة المشوهة لا يمكن أن تؤثر إلا بالسلب، إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه، كما هو معلوم.
أما المستوى الثاني، فهو الأكثر خطورة وإلحاحا. فلما كان إسلام الغرب بعيد المنال على المدى المنظور، كما ألمح إلى ذلك الدكتور إبراهيم أبو محمد، بطريق غير مباشر، في تساؤله:” فهل صحيح أن أمريكا والغرب تصالحوا مع الدين عموما والإسلام بشكل خاص وقبلوا بوجوده وسمحوا وسيسمحون له بالحضور في أي ميدان خارج المعابد أو في أي مشهد من مشاهد الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية عن اقتناع ورضى؟
قلت: فلما كان إسلام الغرب بعيد المنال في المنظور القريب، لاعتبارات عديدة، ليس هذا مجال بسطها، فإن المطلوب، هو بذل الوسع على صعيد المجتمعات الإسلامية.
وليس معنى هذا، أن الطريق ممهد لتحقيق هذا المطلب العزيز، فدونه خرط القتاد كما يقال، لأن الغرب سيبقى دائما بالمرصاد لكل سعي في ذلك الاتجاه، في تحالف بغيض مع أزلامه وعملائه الذين فرطوا في الأمانة، وولوا وجوههم شطر كراسيهم ومصالحهم الضيقة، وباعوا أخراهم بدنياهم. ولكن قسطا كبيرا من الشروط الضرورية لإحداث النقلة المنشودة نحو المجتمع المسلم الذي يعيش على الإسلام قلبا وقالبا، متوفر وقائم، وما على القوى العاملة للإسلام، إلا حسن استثمارها إلى أقصى الحدود. ولعل ما قدمته كورونا من عبر، وما يسرته من فرص للتطهير والاعتبار، أن يكون عونا على شق هذا الطريق الشاق، وليس ذلك على الله بعزيز.
وإذا كان الداخلون في دين الله من الغربيين اليوم في ظل غياب تجربة النظام الإسلامي، هو بنسبة معينة في صفوف فئات معينة، فإن تلك النسبة ستضاعف عندما يرى الغربيون شمس الإسلام تسطع على العرب والمسلمين، إذ ذاك فقط، يمكننا أن نقول: لقد دخلنا عصر عودة الإسلام من أبوابه الواسعة. وما ذلك على الله بعزيز. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وجدة في 8 رمضان، 1441، موافق 02 ماي 2020

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock