أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

من زمن الشاحنات

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

محمد شحلال
يتذكر سكان البادية من أهالينا بغصة وألم مرين، لن تندمل جروحهما ،معضلة التنقل والسفر في الماضي ،وكثيرا ما يطغى هذا الموضوع عندما تحضر ،،الصينية،،ومرفقاتها، فتنفتح تجاويف الذاكرة،ويتأثث الوصف بغير قليل من المبالغة.
لقد كان هؤلاء الأهالي تحت رحمة الدواب لمن توفرت لديهم البغال والحمير،بينما كان السواد الأعظم من الناس، يلجأون إلى قوة أقدامهم التي تماهت مع خشونة نعال الحلفاء التي يلزم منها كمية كافية لتوفير قطاع الغيار.
خلال الفترة الاستعمارية،لم يعرف الناس إلا مركبات المعمر،ثم شاحنة القائد الذي نصبته سلطات الاحتلال لترويض إخوانه بعدما أطلقت يديه ليفعل في الناس ما يشاء.
وقبيل فجر الاستقلال،بادر أحد أبناء البلدة من المقيمين بمدينة جرادة، إلى اقتناء أول حافلة تربط بين البلدة ومدينة الفحم ، لتقطع مسافة سبعين كلمترا من الطريق غير المعبدة،قبل أن تصل إلى بلدة،،عين بني مطهر،،لتنعم المسكينة بما يقارب الخمسين كلمترا من الطريق المعبدة نحو جرادة،بينما تمكن أحد المقاومين من خارج البلدة من الحصول على مأذونية حافلة لربط البلدة بمدينة تاوريرت بعيد الاستقلال.
وبسبب طبيعة التنقل في الحافلة وما لها من طقوس،فإن الأهالي كانوا يفضلون التنقل عبر الشاحنات لأنها تتلاءم مع حاجياتهم وأمتعتهم التي لا مكان لها في الحافلة.
كان مدشر،،المقام،،السفلي-معقل الشرفاء أولاد سيدي بالقاسم أزروال -هو المنطلق لأول شاحنتين،تولتا تلبية حاجيات الساكنة في نقل المحاصيل الزراعية،والتنقل من مكان إلى اخر حسب حركية الرحل،إلى جانب ربط البلدة بكل من جرادة وتاوريرت ودبدو في أوقات معينة تتخللها استعدادات ،وحسابات لافات الطريق، بما فيها سوء الأحوال الجوية ،وكمائن رجال الدرك الذين ظلوا يؤرقون مالكي الشاحنات ،حيث يتعرضون إلى أشكال من الابتزاز والعقوبات التي ترهق كواهلهم.
في أواسط الستينات من القرن الماضي،تناسلت الشاحنات،وأصبحت وسيلة للاغتناء ،ودليلا على الرقي في السلم الاجتماعي.
وهكذا،لم يعد امتلاك الشاحنات حكرا على فلان أو علان،بل صار في كل،،دوار،،شاحنة أو أكثر، لرفع الضيم ومنافسة الاخرين،وكانت،، ماركة: ،،الفورد الحمراء الجبهة،،قد تحولت إلى أيقونة نقل وسفر حقيقية،إلى درجة أن الأهالي قد صاروا يميزون المالكين عبر هذه الشاحنة التي ما زال منها أثارة عند ساكنة النجود العليا،حيث تستجيب لحاجياتهم المختلفة.
شاءت الأقدار أن يكون لنا – معشر المتعلمين- من أبناء البلدة بمدينة جرادة ،نصيبنا من المعاناة مع هذه الشاحنات كلما حلت عطلة مدرسية.
لقد كنا نلتقط أخبار الشاحنات التي يمكننا استقلالها عند السفر نحو مسقط الرأس أو العودة منه.
كان ثمن التنقل عبر هذه الشاحنات يقل عن نظيره في الحافلة،كما كانت هذه الشاحنات غير مرتبطة بموعد للانطلاق كما هو الحال بالنسبة للحافلة التي يتعين الحجز فيها سلفا،والالتزام بموعد محدد للسفر لا يتجاوز مرتين في الأسبوع.
تحولت الشاحنات إلى وسائل نقل معتادة لدى الأهالي الذين يستصغرون متاعبها وحرص مالكيها على الخروج ليلا لتفادي رجال الدرك،وأصبحنا بدورنا مكرهين على اللجوء إلى هذه المركبات السوريالية كلما حان موعد السفر.
كانت الرحلة من البلدة إلى مدينة جرادة ذات مسار مختلف عن مسار الحافلة،وهكذا،وبمجرد الوصول إلى بلدة،،المريجة،،في مقدمة النجود العليا،فإن السائق كان يعرج إلى اليسار، لتوقظ الشاحنة كل غبار منطقة،،كعدة الشيح،،الشهيرة بترابها الأحمر الذي تلتحفه أغنام،،الظهرة،،الذائعة الصيت،أو ما يطلق عليه المربون: الدغمة.
إن هذا المسار،هو في الواقع اختزال للطريق نحو جرادة،ذلك أنه يمر غير بعيد عن منتجع،،تكافايت،،حيث يخترق ، الوداي الحي،،كما يعرف هنا قبل أن يحمل اسما أخر ،هو،،وادي زا،،ابتداء من تاوريرت.
قبل أن تصل الشاحنة إلى النهر،فإنها كانت تتوقف عن نبع شهير،يدعى: غينة.
يقع هذا النبع في منحدر ترابي،ويتميز بكونه عبارة عن حفرة مليئه بماء لا يطفو إلى السطح،لكنه متوفر بكثرة،وكان المسافرون يشربون منه ،وفي ذات الوقت،يستغل صاحب الشاحنة هذا التوقف لاستخلاص واجبات التنقل.
تروى حكايات لا حصر لها حول نبع،،غينة،،حيث تقول إحدى أشهرها،بأن فارسا توقف عندها في الزمن الماضي،ثم مد الحصان رأسه لسحب الماء فسقط هو وراكبه في النبع ولم يظهر لهما أثر إلى الان !
رأيت نبع،،غينة،،عشرات المرات في الماضي،لكني لم أزرها منذ عقود بعد فتح طريق جديدة ومختصرة عبر،،تكافايت،،إلى أن سمعت في السنوات الأخيرة بأن النبع قد غار ماؤه تماما،وأن السبب يعود إلى الباحثين عن الكنوز الذين تمكنوا مز إفراغه إلى الأبد من أجل إخراج،،ثروة،،ما !
ليس هناك مصدر مؤثوق يمكن الاستناد إليه،لكن خبر وجود كنز بالمكان،كان متداولا منذ القدم.
إن الأمر المؤكد،هو نضوب ماء،،غينة،،وإلى غير رجعة- ربما-أما قصة الكنز،فهي من قبيل ما يطالعنا بين الفينة والأخرى عبر أخبار الفضاء الأزرق،حيث نسمع عن انتهاك حرمة بعض الأضرحة والقبور بحثا عن هذه الثروات الافتراضية.
كانت الشاحنات تتوقف كذلك بعد نبع،،غينة،،قبل عبور نهر ،،الوادي الحي،،عند شجرة،،بطم،،تعرف ب،،بطمة سيدي
الطيب ،،تم إحراقها والإجهاز عليها بدورها ومرة أخرى من أجل استخراج كنز مدفون بجانبها !
عندما كانت الشاحنة تشرف على مدينة جرادة،فإن السائق كان يخفف من السرعة ليأمر الجميع بالجلوس حتى نصل إلى مكان امن بحواشي المدينة.
لم نكن نعلم عما حل بملابسنا وسحناتنا حتى نصل إلى وجهاتنا،حيث يلزمنا عدة أيام لنعود إلى وضع ما قبل الرحلة،في انتظار أن نعيد الكرة مرات عديدة.
كنا قد انخرطتا في التعاطي مع ما تحول لدى البدو إلى مكاسب حقيقية،حيث كان أحدهم يسارع إلى إخبار من يهمهم الأمر،بأنه تمكن هذه المرة من الركوب إلى جانب السائق،وأنه استمتع بمتابعة طقوس السياقة وحركة الطريق،بل إنه تبادل الحديث مع،،قائد الفورد،،طيلة الرحلة،وأن هذا المكسب قد أنساه في كل الرحلات التي جلس خلالها إلى جانب البغال والحمير والدجاج والماعز بكل ما ينطبع من ذلك في المظهر والمخبر.
تلك بضع من ذكريات أسفار الماضي،توقظها في النفس مشاهد ،،شاحنة الفورد،،التي أصادفها كلما توجهت نحو مسقط الرأس ،فأتملى بطلعتها البهية،وهي ما زالت تقاوم وتنقل المواشي والمياة في أطراف النجود العليا ، متحررة من كل القيود والوثائق الإدارية،حيث لا يميز هذه المركبات الصامدة الا هدير محركها الذي لا يختلط بغيره.
تلك أمة قد خلت،لها ما كسبت ولكم ما كسبتم.
تحية لأرواح العديد من سائقي الشاحنات ببلدتنا ،والذين غادرونا الى دار البقاء، وكنا في الواقع، بحاجة لخدماتهم ذات زمان،وتحية للزملاء الذين مروا عبر هذه المسارات التي عرفت تحولات هائلة طوت فترة صعبة من حياتنا بالبادية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock