أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

عامة الناس بين المكر التاريخي، وغموض الحاضر.

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

بونيف محمد

يدعي الكثيرون عن جهل أو عن قناعة خاطئة أن استشارة عامة الناس(1)، والأخذ بآرائهم في قضايا الشأن العام المحلي والوطني، هي ممارسة للديمقراطية، أو هي من صميمها. ليس هذا فقط بل يبنون مصداقيتهم المزعومة والزائفة على كثرة عامة الناس من حولهم، ونظرا لغياب رأي عام واع ومتيقظ يمكن التعويل عليه (كما في البلدان الراقية والمتعلمة) في بلادنا عامة، وفي مدينتنا خاصة: بسبب تفشي الأمية وتدني مستوى التعليم والـتأطير، وانحدار وضعف أو غياب التأطير السياسي والنقابي و الجمعوي والحقوقي: فهم في الحقيقة لا يستشيرون هذه الفئات المثيرة للشفقة والمغرر بها، بل يمررون عليهم آرائهم المغرضة ويجرونهم إليها جرا، وهذا في حد ذاته نوع من التضليل والاستبداد، والاستخفاف بالمدينة والوطن.

حتى لانضلل عامة الناس ،ونغرر بهم.

فعامة الناس: لتدبير شؤونهم وتوجيههم، علينا ألا نخدعهم بالمظاهر الزائفة والخداعة، كاللباس الديني وغيره، أو الخطب الرنانة الفارغة، أو نستميلهم بحضور وتنظيم الولائم وملإ البطون، بل علينا أن نحتكم في تعاملنا معهم، حتى وهم خارج التنظيمات الجماهيرية، إلى مبادئ وقوانين العمل الجماهيري.

حتى داخل النقابات، أو الإطارات الجماهيرية، نجد فئات غير واعية وغير ملمة بدورها ، وتكون تابعة فقط: لكن ما يجب أن يربطها بالإطار الجماهيري، والفئة التي تتخذ القرارات، ويحصنها ، هي المبادئ والقوانين التي يقوم عليها العمل الجماهيري ،ويحتكم إليها في اتخاذ القرارات : هذه المبادئ التي وصل إليها الفكر الإنساني، عبر مخاض عسير، بعد أن خيضت من أجلها معارك نضالية طويلة الأمد، وبذلت من أجلها تضحيات جسام، وبنيت مفاهيمها واغتنت عبر التاريخ، تشكل أدوات الصراع الداخلية بالنسبة للإطارات الجماهيرية، من نقابات وغيرها من الوسائط، وتحصنها ضد البيروقراطية، وتشكل كذلك أدوات صراع وتوجيه خارجية: أي تنظم علاقة الإطارات بالجماهير، وتوجه على أساسها عامة الناس حتى ولو لم تكن منظمة داخلها.

وهذه المبادئ معروفة، عند المهتمين بالعمل الجماهيري وتبنتها العديد من الإطارات الجماهيرية منها أ.و.ط.م، المنظمة الطلابية العتيدة، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان ….. إلا أنه يتم العزوف عنها لعزل الجماهير، وتمرير ما يمكن تمريره في صمت رغم أنها تحتفظ براهنيتها: وهي المبادئ الأربعة، بالإضافة إلى النقد والنقد الذاتي.

عامة الناس في تراثنا الفكري،وبناء المفهوم :

الكثير من المفكرين، وضعوا جزءا من فكرهم في خانة ” المظنون به لغير أهله” أي احتفظوا لأنفسهم بجزء من فكرهم، أو دونوه في كتب لم تنشر للعامة لأنها لا تستحقه في نظرهم، ولم تبلغ من النضج ما يكفي لاستيعابه، وخوفا من سوء فهمه من عامة الناس، وإلحاق الأذى به. منهم ابن رشد وابن سينا، والإمام الغزالي صاحب تهافت الفلاسفة.
قسم ابن رشد الناس معرفيا إلى عامة الناس وخاصتهم، فعامة الناس معروفة، أما خاصتهم فهم المثقفون والفلاسفة أو ما نسميه اليوم بالنخبة. وقسم الناس حسب قدرتهم على تحصيل المعرفة، وعلى استيعاب الفكر وفهمه، إلى ثلاثة فئات:

الفئة الأولى تستوعب وتفهم فقط بواسطة الخطاب البسيط كالخطاب الوعظي مثلا، ولا ترقى لغيره.

أما الفئة الثانية فهم يستوعبون بالخطاب الجدلي وهو ظني، كالمتكلمين مثلا،

وفئة الخاصة وهم المثقفون والفلاسفة الذين يصلون إلى الحقائق بواسطة البرهان والمنطق: أي القادرون على استعمال النظام المعرفي البرهاني، وعلى التأويل والبرهنة.

وعامة الناس تدخل في الفئتين الأولى والثانية بالنسبة للتصنيف المعرفي عند ابن رشد.

ويرى ابن رشد أنه لا يجب تعميم كتب البرهان والمعارف البرهانية على عامة الناس مخافة سوء فهمهم لها، أو تأويلها تأويلا خاطئا، وقد تخرج بهم عن جادة الصواب.
وأبوبكر بن زهر، وهو طبيب وصديق لابن رشد، صادر من تلاميذه أحد كتب المنطق والبرهان وجذه عندهم، ولكن عندما بلغوا من العلم ما يكفي أعاده إليهم، حيث كان المثقفون مقتنعون أن كتب المنطق والبرهان يساء فهمها وتعطي نتائج عكسية إذا كان مستوى قارئها الثقافي متواضعا أو ضعيفا، ومنعوها على عامة الناس.

ليس هذا فقط، بل احتقر الإمام الغزالي عامة الناس، ودعا إلى عدم السماح لهم بقراءة كتب البرهان وعدم نشرها بينهم: رغم أنه سعى في مشواره الفكري، وغاياته القصوى، إلى تأسيس البيان العربي على العرفان الصوفي، أي أنه لا يتبنى هو نفسه الخطاب البرهاني. وشبه من وضع بين يدي عامة الناس كتب البرهان، كمن علق الجواهر على أعناق الخنازير، بذكره للمثال التالي: (لا تعلقوا الدر أعناق الخنازير).
وهو أيضا ممن تبنى فكرة المضنون به لغير أهله، أي لم ينشر بعض آرائه لاعتقاده أنه سيساء فهمها.

ويرى الفيلسوف ابن باجة، وهو صاحب تدبير المتوحد، أنه على المفكرين المتميزين أن ينعزلوا عن العامة، ولا يتعاملون معهم إلا في حدود الضرورة، أو يهاجروا إلى حيث يوجد بعض أمثالهم.

الوعي التاريخي بخطورة عامة الناس والصراع من أجل الاستحواذ عليها واستغلال قوتها العددية.

يذكر المفكر جورج طرابيشي (2) أن النخبة هي التي كانت تنفرد بتوجيه عامة الناس وقيادتها، ولكن منذ أن قادت عامة الناس، بعد التضخم السكاني الذي عرفته بغداد، وارتفاع أعدادها بشكل مهول، الانقلاب على المأمون العباسي، وهو من النخبة وعوضته بإبراهيم ابن المهدي. أصبحت وضعية عامة الناس وضعية إشكالية، وأصبح الكل يتهافت لاستمالتها وكسب رضاها خاصة الحكام.
وانتبه الحكام العباسيون إلى ذلك.

ويذكر التاريخ أن الخليفة المأمون كتب لأخيه المعتصم يلفت انتباهه لخطورة العامة ويوصيه قائلا (العوام، العوام) فإن الحكم بهم). ويرى عدد من المفكرين أن بعض الخلفاء، لإرضاء العامة ضيقوا الخناق على المفكرين والفقهاء، ونكبة خلق القرآن التي تبناها المأمون نفسه، أبلغ مثال على ذلك.

مند عهد المتوكل أي عهد الانقلاب السني، وعلى امتداد عشرة قرون، كان الدين هو الشكل الممكن للإيديولوجيا(3): وجعلوا منه الحامل الأمثل للسياسة، وكان الحكام والطامعون في الحكم عامة، يجسون نبض عامة الناس حتى من خلال حضور الجنائز لمعرفة توجه العامة، و ميولاتها، لإرضائها واستقطابها. فجنازة ابن حنبل العارمة والتي كانت محط اهتمام بالغ: إذ كانت إيذانا بانتصار مدرسة الحديث. حتى جنازة الحارث المحاسبي الذي كان ابن حنبل غير راض عنه، لم يحضرها إلا القليل ولم يصل عليه إلا أربعة رجال(4) رغم أنه كان من أهم الشخصيات الدينية.
ومن هذه الأحداث وتوجهاتها، تم المرور من حسب جورج طرابيشي من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ، وتمت كما قال قرأنة السنة أي إعطائها نفس قيمة القرآن.

بعد كل هذا يمكننا أن نتساءل.
هل لعامة الناس مشروعية الحوار وتقرير مصير العباد (أو حتى مدينة مثلا)؟
ـ وهل يسمح لها تكوينها الثقافي والسياسي المتواضع والمتضارب وتركيبتها الاجتماعية، بقيادة معارك التغيير؟

يظهر من خلال مفهوم عامة الناس المعرفي والطبقي، ومن خلال تاريخها، والأدوار الماكرة الموكولة لها عبر التاريخ إلى الآن، وحاضرها، أنها فقط تابعة، ومجرورة، وقاعدة خلفية، ولا يعتد بآرائها إن كانت لها أصلا آراء.

بونيف محمد ، جرادة 2023 /06 /17

(1) استعملت في هذا النص مفهوم عامة (الناس (عوض الجماهير، فالجماهير برأيي يمكن أن يندرج تحت مفهومها، المثقف، أو البورجوازي الصغير أو البروليتاريا الرثة، أومن ليس له أي دور في علاقة الإنتاج، أي لا يحد هذا المصطلح معيار معرفي أو طبقي خاص، وهذا ما لا أريده، وأقصده هنا.

ومفهوم عامة الناس، استعمل تاريخيا، وحاول المفكرون بناءه معرفيا، كابن رشد الذي يستعمله، ويستبدله في بعض الأحيان بالجمهور، فالأطراف المكونة لعامة الناس لا تخضع للتصنيف الطبقي المعروف فقط، بل تخضع أيضا لتصنيف معرفي، يصنفهم حسب قدرتهم على استيعاب المعرفة، كما وضحت في هذا النص، وحسب نوعية الخطاب الذي يستسيغونه للوصول إلى نوع من المعرفة تنسجم مع قدراتهم العقلية المتواضعة في الغالب. وعامة الناس أصبحت بالفعل طرفا في معادلة صعبة، لكثرة عددها، تتهافت الأطراف المتصارعة سياسيا، في بلداننا لاستمالتها، لكونها قابلة بطبيعتها للتطويع والتدجين، والانقياد لهذا الموقف أو نقيضه.

.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock