أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

أصوات وتأويلات

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

محمد شحلال
يقترن اليوم 21 مارس،بحلول فصل الربيع الذي تتجدد فيه حلل الكائنات الحية ،استعدادا للتكاثر والفرحة، وهو ما جعل هذا الفصل يحظى بالاحتفاء ،كما هو الحال عند الفرس الذين جعلوه يوم عيد يعرف ب،،النيروز،،!
لم يكن الشاعر العباسي أبو عبادة البحتري بعيدا عن الثقافة الفارسية،فاستعار منها ما وشى به بيتية الخالدين في وصف الربيع،حين قال:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى أوائل ورد كن بالأمس نوما
سيظل فصل الربيع مناسبة يحرص عشاق الطبيعة خلاله، على استغلالها لتأمل بدائع الخالق التي لا حدود لها.
وإذا كان للربيع في مسقط الرأس تجلياته الجمالية في سنوات الخصب،فإن ما يثير الاهتمام هناك،هو غنى الثقافة الشعبية بخصوص تأويل أصوات الكائنات ،ودلالاتها التي تتقاطع مع الأساطير التي نمت عبر العصور.
يعتبر الشحرور الأسود ،من الطيور التي لا تغادر موطنها،والتي هي من أشهر الأصوات الرخيمة في فصل الربيع،بينما لا يعبر عن تواجده في الفصول الأخرى،إلا عبر ،،لغة،،مخالفة تماما لما تعهده الأذن حين يختار مجلسه في قمم الأشجار الآمنة، ليوزع ألحانه في كل الاتجاهات،خاصة بعدما يبني عشه بنجاح.
يعيش هذا الطائر الذي يستوحي بعض حذره من الغراب، الذي يقاسمه السواد الشامل ،باستثناء حمرة المنقار لدى الشحرور،في الأشجار المنيعة والجنان،حيث يضمن توفر الطعام خلال شهور السنة.
لا أخفي أني من المولعين بسماع ألحان الشحرور أيام الربيع،حيث أقترب منه خلسة ،لأتابع معزوفاته التي لا تتوقف إلا بعيد وقت الأصيل.
يروي الأهالي أن الشحرور يمرر وصية ثمينة ،،لنسله،،عبر الألحان،ذلك أنه استسلم ذات ليلة لجاذبية أغصان الكروم المورقة،فقرر المبيت في أحضانها،ولما أراد الخروج في الصباح
بحثا عن الرزق،فوجىء بخيوط شجر العنب التي تمسك بالغصون ،قد التفت حول قائمتيه،فأصبح سجينا.
قضى المطرب المتعب ،وقتا طويلا وهو يلتمس الخلاص قبل وصول أول عدو،فلما استعاد حريته،أبدع قصيدة يحذر فيها عقبه من تجنب شجر العنب خلال فصل الربيع ،حفاظا على سلامته،ولذلك فإن الألحان الشجية لهذا الطائر ،لا تخلو من رسائل مشفرة، لست أدري كيف تمكن أجدادنا من فك رموزها ؟!
وإلى جانب الشحرور،فإن طائرا آخر ظل يستوطن بلدتنا في شكل جماعات،ولا يختلف عن الشحرور إلا بوجود معظم الريشات البيضاء التي تغطي على سواده.
إنه طائر العقعق الذي لم يعمر من جنسه إلا عدد قليل، بعد الخراب الذي عرفته البيئة ببلدتنا.
كنا نعرف هذا الطائر الذي يبني عشه في أعالي الأشجار وكأنه نسخة مصغرة من عش اللقلاق، في حالتين على الأقل،فهو مستهلك نهم لأطباق،،الكليلة،،التي كانت تنشرها أمهاتنا فوق مرافع خاصة لتجفيفها،ثم إن أسراب العقعق كانت تقدم خدمة لا تقدر بثمن للرعاة،ذلك أنها تفضح الذئاب المتربصة بالقطعان،حيث ما ان يقترب هذا الحيوان الشرس،حتى تحيط به هذه الطيور مجلجلة بأصوات تجعل الرعاة يبعدون الخطر.
أما طيور الحجل،فإنها تتوزع إلى أزواج منذ مطلع الربيع،فإذا باضت الأنثى،اختار الزوج مرتفعا، ثم شرع في التوسل لشريكته علها تسلمه بيضة كما يؤول الأهالي آهاته !
عندما يستتب الاعتدال الربيعي،فإن طائرا غريبا يعلن عن وجوده،من خلال صوته النمطي،والذي يربطه الناس هناك بإنتاج الذباب،وهذا الطائر ليس في الواقع إلا طائر الوقواق الذي قد تسمعه جيدا ،لكن من الصعب أن تراه ،وكأنه يفضل أن يظل مخلوقا شبحا !
بحلول شهر أبريل،تعود اليمامة إلى بلدتنا لتظل هناك إلى أواخر الصيف،مرددة نغما خاصا بها ،وقد نسج الأهالي حولها قصصا يجمع بينها عنصر السذاجة الذي تلخصه وشايتها بمالك الحزين لفائدة الثعلب.
يتعذر استعراض كل التأويلات التي توافقت بشأنها الثقافة الشعبية ببلدتنا ،لتفسير أصوات الطيور والحيوانان،لكن أسطورة ،،اسحاق ويعقوب،، تظل أهم الألغاز في مجالس السمر، حين يخرج الأهالي عن المألوف من أجل الخوض في الميتافيزيقا كما انتهت إلى مداركهم البسيطة.
أما الاسمان ،فقد استقاهما الناس من نداء الطائرين الباحثين عن بعضهما دون أن يلتقيا إلى الآن،حيث ان المستمع،يخيل إليه وكأن أحدهما ينادي:اسحاق ليرد الثاني:يعقوب !
لاسحاق ويعقوب رمزية قوية، مرتبطة بمأساة الفراق بين الأحبة،حيث يعتقد الناس بأن الطائرين يحاكيان قصة فراق أخوين حقيقيين، ما زالا يجوبان الأرض متبادلين النداء لعلهما يجتمعان مجددا،لكن دون جدوى.
وهكذا،فإن الأهالي عندنا كثيرا ما يحيلون على قصة ،،اسحاق،،و،،يعقوب،،حينما يختارون اللوم ،،الرقيق،، على طول الغياب بين الأحبة !
كم يلزمنا من جهد لصيانة ثقافة محلية ضاع أغلبها بسبب غياب الوجوه التي ،كانت تؤثث المجالس، بالتفنن في سرد مشوق لأخبار جذابة ،وإن لم يكن لها من سند غير الإيغال في القدم !

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock