أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

واد طايرت بين الماضي والحاضر.

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

ميمون جلطي
واد طايرت نهر مغربي يمر على بعد كيلو متر واحد من واحة سيدي يحيى، ويوجد شرق مدينة وجدة، بالمنطقة الحدودية ويفصل بين المغرب والجزائر ويمتد طوله إلى ما يناهز المائة كيلو متر ينطلق من الجنوب الشرقي ضاحية تويسيت وينبع من جبل رأس عصفور وجبال أورير و حيان و الوازن ويصب شمال شرق بمدينة مغنية الجزائرية.
واد عين طايرت كان في الماضي غني بثروته المائية ويعرف بجريان مياهه المتدفقة وبعيونه العذبة والغزيرة كان يصعب على المرء عبوره أو المشي فيه، لكثرة بركه المتناثرة ومياهه الجارية، وكان يتميز بطبيعة خلابة، زاهية الإخضرار، وكثيفة الحشائش والأشجار، كانت تعيش فيه عدة أنواع من الطيور بمختلف الألوان والأشكال وآية في البهاء والجمال ولا صوت يعلو فوق صفير البلبل ولا تسمع فيه سوى عزف خرير المياه وعلى إيقاعه، تغني الطيور، والعصافير، جميل الأنغام، وتغرد بكل اللغات والألحان.
في القرن الماضي، كان واد طايرت، تدب فيه الحياة، له قلب ينبض ويفيض ماء عذبا وله عيون تنهمر نبعا ودمعا كان جنة الله، فوق بسيطته وقبلة للوافدين والباحثين، عن الإستراحة والإستجمام، خاصة في الصيف، وأيام العطل، يقضون أوقاتا جميلة في ظلال وعيون ويجود عليهم بأسماكه مما يشتهون ولهم في زادهم طعام مما يتخيرون، وكانت تنتفع من مياهه الساكنة المجاورة وتشرب منه مواشيهم وكل الأنعام من أبقار وماعز وأغنام.
وعلى مستوى جنبات واد طايرت تتفجر منابع فياضة وعيون بمسمياتها صافية سلسبيلا، باردة صيفا ودافئة شتاء صالحة للشرب الآدمي، والإستعمال المنزلي، عيون غزيرة، وعديدة، لا يتوقف تدفقها، وهنا نذكر أسماء البعض منها:
عين عيادة، عين قدور، عين الماحي، عين الغولة، عين السبع، عين الحلوف، عين اليهودي، عين ماكرمان، عين الصفاح، عين الخروبة، عين البقرة، عين سيدي انزار وأعظمهم عين طايرت ويطلق عليها، عين السلك، نظرا لتسييجها، بسلك شائك، إبان المستعمر الفرنسي وكانت هي المنبع الأصلي والمزود الرئيس للماء الشروب، كان يربط بها، أنبوب حديدي، تم إنشاؤه بعيد عهد الحماية ويكب في سيدي يحيى مرورا بالدواوير ويصل إلى غاية الثكتة العسكرية بحي المحلة وجدة المدينة لتزويد الجيش بماء الشرب.
كان واد طايرت وجهة لعشاق السباحة كل فصل صيف، كانوا يأتونه من أماكن بعيدة وكانت بالوادي بحيرة كبيرة وعميقة تسمى السلوقية والسباحة فيها خطيرة جدا، وكان يقال عنها بأن هناك جن يسكنها ويتحكم فيها بدليل أنها كانت تبتلع كل من يتجاوز حدود السباحة فيها، وغرق ومات فيها الكثير من الشباب، لها ضحاياها ولم يستطع أحد على فك لغزها.
وفي عز جريانه كان واد طايرت مجهزا بسدود مائية تقليدية تم بناءها بسواعد أهل القرية في ظل الإستعمار الفرنسي منها سد طورو، سد الماحي، سد الغلاليس، سد مشرع كطايف، سد سيدي ادريس، سد الرحى البالية وسمي هذا الأخير نسبة إلى مطحنة حبوب، كانت تتموقع على جانبه، لم يبقى منها اليوم سوى أطلال والعجيب في هذه الرحى أنها كانت تشتغل بماء السد الذي كان مجهزا بناعورة مائية ذات حركة نشيطة تعمل على دوران محرك المطحنة فتقوم بدورها في طحن محصول القمح والشعير وتحصل الساكنة على ما تحتاج إليه من دقيق خبز وطحين ودون حاجة إلى بنزين وكان يستفيد من سدود واد طايرت، عدد كبير من الفلاحين، لسقي بساتينهم المنتجة التي كانت تفيض فاكهة أعناب ورمان، وتؤتي أكلها كل حين من زيتون وتين، وتزخر بالغلة، الطبيعية، المتنوعة، وبالخضر الوفيرة والأشجار المثمرة.
كان أهل الدوار يجتمعون على ضفة واد طايرت تحت شجرة الصفصاف المترامية الأطراف، الدانية عليهم ظلالها، يقيمون الوعدة، ويشتركون في طهي كسكس التشيشة، بلحم الغنمي وهي أكلتهم المفضلة، في هكذا مناسبة، فيأكلون ويتصدقون وعند الإنتهاء كانوا يغترفون بأكفهم من مياه النهر يتراشقون ويرشون بعضهم البعض، ابتهالا إلى الله تعالى طالبين منه أن ينشر رحمته، ويسقي عباده وبهيمته، ويمطرهم بأمطار الخير والبركات، كانت الوعدة معتادة ودعواتهم مستجابة، وعامهم عام الخير والصابة.


أما وعن حاضر، واد طايرت اليوم، قد تدمع عيناك لحاله، فقد جفت مياهه، ولم يعد له منبع ولا مصب، ونشفت عيونه، ولم يبقي لها أثر وأصبح صحراء قاحلة يخيم على أطرافه صمت رهيب ولا تسمع له هدير ولا خرير إلا من أصوات ضفادع تنق وسط الأحجار والصخور، أصوات مزعجزة كأنها أشباح حلت محل جريان الماء، بعدما خلا لها الجو والمكان، فلا نبع يسيل ولا طائر يطير، واندثر فيه، كل شيء، حي وجميل، وهجرته عصافيره الزاهية، وغابت كل الألحان الجميلة، ولم نعد نسمع فيه تلك التغريدات الشجية الممزوجة بخرير المياه، فلا بلبل يشدو، ولا كروان يدعو.
كل من يعرف، التاريخ الزاخر لواد طايرت، ويتأمل فيه اليوم يتحصر على انعدام مياهه الزاهرة وعيونه الطاهرة، وسيتأثر بمشهده الحزين، ويأخذه حنين إلى ماضي له نكهة خاصة مع الطبيعة والمياه المتدفقة، والطيور المغردة، ويجد نفسه أمام واقع مبيد لا ماء فيه، ولا خضرة ولا عشب، فلم تبقى للوادي بركه المائية الممتلئة، التي كانت تغري قاصديه الباحثين عن الراحة والإسترخاء وما بقي فيه إلا الحجر ونفر منه البشر ولا مكان فيه اليوم لهواة السباحة وعشاق السياحة.
انحباس المطر وتعاقب سنوات الجفاف عوامل قاهرة لم تترك قطرة ماء بواد طايرت، وكانت سببا في إعدام عيونه وإبادت بركه وسدوده وإتلاف مقوماته الطبيعية من أشجار وأغراس والبساتين والضيعات التي كانت تحيا على مياهه يبست ولم تقاوم أزمة الجفاف وقضت عليها السنوات العجاف فلا فاكهة فيها ولا خضر، وأصبحت جرداء خاوية على عروشها، وتخلى عنها أصحابها.
وما ساهم أكثر، في احتقان ماء واد طايرت، هو سرقة مياهه عبر حفر آبار عشوائية بجانبه وعلى طوله واستغلالها المفرط من قبل فلاحين معيشيين وأدى هذا إلى تبذير موارده المائية وأثر بشكل كلي على فرشته المائية السطحية والجوفية على مستوى منابعه وعيونه.
وفي ظل الجفاف والتغيرات المناخية التي أدت إلى شح مياه الوديان وتراجع حقينة السدود طيلة السنوات المنصرمة بات شبح العطش يهدد ساكنة المنطقة التي فقدت ما كانت تجنيه من خيرات بساتينها بسبب الإنحباس المائي، كما لم تجد من أين تورد مواشيها التي أصبحت تشرب من ماء الفاتورة وهذا فيه تكلفة بألف حساب وإفلاس للفلاح والكساب فبعد يباس واد طايرت، لا حل في الأفق، إلا بحفر آبار، وخلق ثورة مائية فلاحية فبالماء تحيا المنطقة وتعود إلى سابق عهدها وبالماء يحيي الله الأرض بعد موتها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock