أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

فجيج: قراءة في الطريق “السياحية” (2020)

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

منذ أوائل شهر يونيو الماضي، حيث بدأ الرفع التدريجي للحجر الصحي تحت جائحة الفيروس التاجي 2019، طفا على السطح مشروع إنجاز طريق ظل مستترا لا يعرف عنه العموم قليلا ولا كثيرا. ويتعلق الأمر هنا بمشروع طريق وُصفت بـ “سياحية”، غير أنها لا تحمل من المواصفات ما يؤهلها لتكون جديرة بهذا النعت، ذلك أن السياحة تعتمد على موارد ينبغي تشخيصها واستثمارها وصيانتها. وجدير بالتذكير أن أي مشروع سياحي يعتبر عملية تنموية وعملية تهيئة لها قواعدها وأسسها ويتدخل فيها خبراء مختصون في التنمية والتهيئة، ولها تبعاتها ولها انعكاسات تقتضي إشراك مختصين آخرين في مجالات عدة مثل البيئة والتراث والثقافة والاقتصاد وغيرها. لكن اتضح من أول وهلة أن هذا المشروع الذي بوشر إنجازه بشكل مباغت، لم يشارك في إعداده أي منتمٍ لهذه التخصصات، وانطلقت هذه الطريق مدمرة كل شيء، وضاربة عرض الحائط بكل القوانين والإجراءات والمساطر المعمول بها.


في أواسط شهر يونيو، أُسقطت ثلاث صور في منصة تواصلية، سرعان ما أثارت الانتباه من خلال دلالاتها التي تفيد أن هذا المشروع الذي أريد له أن يكون إسهامًا في التنمية السياحية بالواحة العريقة، لا يقوم على دراسة تؤمّن جدواه وهدفه المعلن وتراعي الإكراهات الجيوتقنية، بل ولم يتم التفكير حتى في إنجاز دراسة للتأثيرات البيئية، والتي تعتبر مصيرية في مثل هذه الأوساط التراثية الحساسة والعطوبة، وكلها جوانب تراعيها النصوص القانونية وإجراءاتها التنفيذية.
الحراك والحراك المضاد وموقف المسؤولين:
كانت هذه الملاحظة المجردة من أي موقف من هذا المشروع، بمثابة دعوة تلقائية للفحص والافتحاص، لكن الأمور انطلقت في كل الاتجاهات، ومن كل حدب وصوب، ومن كل فئات المجتمع المدني. وهكذا انبرى العديد من المعلقين والمنادين منصبين أنفسهم خبراء في الموضوع ليعلنوا رفضهم أو دعمهم لمشروع هذه الطريق التي أسقطت من عدم ودون أدنى تفكير أو تأمل أو استشارة أو دراسة، عدا “دراسة تقنية ” يتيمة لم يعرف منها سوى بعض التسريبات التي تخص مسير الطريق الذي يظهر بجلاء أن الدراسة المذكورة لم تتعد الهندسة الطبغرافية في أبسط تجلياتها، وهذا ما أظهره خضوع عملية الإنجاز لتعديلات مرتجلة مفتوحة. تم التأكد من هذه الوضعية الشاذة لمشروع ينجز في مجال ترابي ذي حساسية عالية، من خلال التواصل مع بعض المسؤولين المحليين بالواحة، متبوعة بزيارة ميدانية، فضلا عن زيارة لمقر مجلس الجهة، حيث لم تتح الإدارة حتى فرصة الاطلاع على الدراسة التقنية، رغم أن القصد من طلب ذلك هو الإسهام في إنجاح المشروع بإنقاذ ما ينبغي إنقاذه، وتصحيح ما يمكن لتجنيب الواحة عواقب وخيمة باتت وشيكة بسبب شق طريق غير محسوبة العواقب.


تعالت أصوات كثيرة رفضا أو دعما لهذا المشروع، من منطلقات شخصية فردية أو جماعية، تتمحور أحيانا حول “موقف” قصر أو عشيرة أو حتى طائفة، في جهل أو تجاهل بأن الأمر شأن عام ينظمه القانون ويتعاطى معه ذوو الخبرة والتخصص، وليس كل من هب ودب، مع العلم أن كل المعنيين بالمشروع الذي قد يمس مصالحهم بضرر ما، يضمن لهم القانون الذود عن حقوقهم، بل كل طرف بعيد أو قريب يمكن له أن يتدخل بما يكفله المشرع من حقوق، لكن بإجراءات مسطرية معروفة وليس بالجدل الذي بلغ أشده أحيانا، متجاوزا عتبات اللياقة والمنطق، إذ بلغ حد القذف والتجريح والشتم، وإطلاق بعض النعوت المؤسفة على منتقدي المشروع في صيغته المرتجلة، من قبل “أعداء المشروع، وأعداء الواحة، وأعداء التنمية، والأجانب، والمغتربين، وغير ذلك مما ليس له أي مسوغ…
حدث كل هذا ويحدث في صمت شبه مطبق من لدن المعنيين من السلطات الإدارية والمنتخبة، إلا ما ندر من خرجات اتضح أن بعضها للتمويه والمناورة، بينما لم يجرؤ طرف واحد على العمل على إيقاف أشغال هذا المشروع المثير للجدل ولو مرحليا، والذي يخرق القانون في كل تجلياته ومراحله، مما يثير استغرابا ويطرح تساؤلات عديدة.
إنه لمن الغريب أن يعكس موقف العديد من المسؤولين، إن لم يكن موقف جميعهم، لامبالاة وتلكؤا واضحا لا يمكن تأويله بالنسبة للبعض إلا بالتواطؤ مع ما يمكن تخمينه مؤامرة ضد الواحة وضد التصنيفات التي حازتها، لأهداف غير معلنة، لكنها باتت معروفة، كما تم التعبير عن ذلك الكثير من المنتقدين.


فكيف يعقل لمسؤول إقليمي كبير أن يعبر عن عدم رغبته في تصنيف الواحة؟ فمن الذي منحه هذه الوصاية، ولماذا لم يمارس سلطته واختصاصه في تقويم الوضع وإعادة النظر في المشروع استجابة للأصوات العديدة لمعنيين وخبراء ومختصين في قضايا التهيئة والتنمية والبيئة والسياحة والتراث وإعداد التراب وغيرها؟ ولماذا لم تحرك بعض الأطراف ساكنا على الصعيد المحلي والجهوي والوطني رغم كل الحراك والضجيج الذي أثاره المشروع؟ وكيف تم تجنيد عدد من الفعاليات في عين المكان وخارجه وطنيا ودوليا للترويج للفوائد المزعومة للمشروع وغض الطرف عن أخطاء تدبيره وانعكاساته السلبية العديدة وغير القابلة للجبر؟ ولماذا ووجهت الخروقات الصارخة العديدة بالصمت من قبل الذين يفترض فيهم تحمل المسؤولية ومحاسبة الفاعلين؟ وهل هناك حماية ما أو ردع ما من جهة نافذة ما، لكل هؤلاء الذين لم يجرؤوا على القيام بواجبهم الوظيفي وما يمليه عليهم ضميرهم المهني؟
أهم الخروقات التي شابت إعداد المشروع وواكبت إنجازه:
الاعتماد فقط على “الدراسة التقنية” الطبغرافية لرسم مسير الطريق، والذي لم يوضع له تصور تراعى فيه الخبرة والجدوى، كما يدل على ذلك وضعه المفتوح أمام التعديلات حسب التفاعلات التي تذكيها عملية الإنجاز، مما يضع العملية في خانة الارتجال واللامسؤولية؛
تجاهل أهم دراسة ينص عليها القانون وهي دراسة التأثيرات البيئية (القانون رقم 12.03)، مما يعكس عدم كفاءة أصحاب المشروع وانعدام الحس البيئي لديهم، مما يكشف أنهم غير مؤهلين لما يمارسونه من مهام منوطة بهم، ولربما رضوخهم لاعتبارات غير موضوعية؛


عدم اتباع المساطر القانونية لعمليات فتح الطرق وتوسعتها (القانون رقم 12.90) وخاصة إحداث الطرق غير المنصوص عليها في وثيقة تعميرية، وينطبق الوضع هنا على واحة فجيج التي تتوفر على تصميم تهيئة، والذي يصنف الشريط الذي تمرر فيه هذه الطريق المرتجلة مجالا ممنوعا للبناء؛
لم تتبع مسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة وبالاحتلال المؤقت الصادر بتنفيذه (القانون رقم 7.81)، مما أثار حفيظة عدد من المتضررين من ملاك الأراضي المقتحمة دون موافقتهم المسبقة؛
تجاهل المحافظة على التراث طبقا للتشريعات (القانون رقم 22.80) التي تنص على التشاور مع مصالح وزارة الثقافة بموجب نص ترتيب موقع أو آثار تاريخية؛
تجاهل التشريعات التي تحمي الواحات من جهة وأشجار النخيل من جهة أخرى (القانون رقم 01/06)
عدم إخضاع المشروع لعملية الإخبار العمومي وانتظار آراء المواطنين والمعنيين وفق مقاربة تشاركية تميزت بها واحة فجيج وكانت مضرب المثل في إشراك السكان في تدبير شؤونها.
المضامين البيئية والتراثية التي من شأن هذا المشروع أن يلحق بها أضرارا:


إن المَسير الذي اختير لمرور هذه الطريق لا يتناسب مع ما يتضمنه من مواضع تعتبر موروثا طبيعيا وثقافيا جديرا بالحماية والصيانة والتثمين، بدل ما يرافق إنجاز هذه الطريق من تدمير وتخريب وتشويه ومسخ. فالمكونات التراثية تشمل المشاهد المؤثثة بموروث جيولوجي وجيومرفولوجي على امتداد جرف مشكل من الرصراصات التي أفرزتها الدينامية الطبيعية على مراحل عديدة متعاقبة تحت ظروف مناخية وبيئية قديمة اتسمت برطوبة استثنائية تفصلها فترات قحولة مفرطة، سادت خلال مختلِف فترات الزمن الجيولوجي الرابع، بل وتمتد إلى ما قبله، وهو ما يعود لأزيد من 2,6 مليون سنة على الأقل، وهي إذن بصمات تراثية تختلف تماما عن الظروف الصحراوية وشبه الصحراوية السائدة حاليا. وتعتبر الشلالات الحالية (إموزّار) مجرد بقايا مما كان سائدا بقوة من مشاهد بديعة، ولذا وجبت صيانتها وحمايتها باعتبارها ذاكرة طبيعية للبيئات القديمة، بل من حيث كونها أيضا من الموارد السياحية الهامة بالواحة، والتي تتطلب حماية وصيانة مواكبة لاستثمارها.
انطبعت فوق هذا التراث الطبيعي بصمات ثقافة محلية عريقة، قوامها المحافظة على التراث وصيانة البيئة بأدنى ما يمكن من التدخلات والتأثيرات، والتي تتم بطرائق منسجمة مع المكونات الصخرية والنباتية، وهكذا استغلت المسالك الطبيعية لمياه العيون وشلالاتها، بمقاربات تقليدية حولتها إلى سواقٍ ساحرة يستمتع الزائر بجمالها ويتأمل هندستها الذكية الموروثة من فترات زمنية غابرة أنجزها عصاميون لم يحملوا صفة “مهندس”، كما حافظ الإنسان المحلي على بعض المخلفات النباتية مثل الزعبج والخروب والكبّار وغيرها، رغم عدم اعتياده استهلاك ثمارها.
تعتبر هندسة السواقي وتنظيمها المجالي موروثا ثقافيا، إلى جانب هندسة تدبير الحصص المائية وتخزينها وتوزيعها اعتمادا على ما يزيد عن مئتي صهريج، وطرائق جلب المياه من العيون والفرشات المائية المعلقة، والتي تعتمد على الخطارات. وقد سبقت هذه المنجزات التاريخية العريقة حياة بدائية خلال العصور الحجرية، حيث خلفت لُقًى تعود للفترة الآشولية، متبوعة بما خلفته من آثار في كهوف تحت الرصراصة لازالت لم تستكشف بعد، مع العلم أن عملية شق هذه الطريق تتجاهلها وتعمل على طمس معالمها، بل وطمرها أحيانا، مما يجعلها جريمة نكراء في حق التراث المصنف وطنيا ويترقب تصنيفا دوليا عن جدارة واستحقاق.


وتتناغم هذه المكونات مع مكونات معمارية تعود على الأقل إلى العصور الإسلامية المتعاقبة، معتمدة على المواد المحلية من طين وصخور ومواد جيرية للترصيف والبناء، تمتد حتى في مجالات البساتين، مع الالتزام بمواصفات وظيفية فعالة وجمالية من حيث الأبعاد الهندسية للمسالك التي تضمن ولوجيتها وحسن استعمالها. وهكذا يتضح أن طريقا معبدة بالإسفلت وبعرض يضاهي عرض الطريق الوطنية رقم 17 التي تربط وجدة بفجيج، لا محل لها من الإعراب وسط هذه الواحة الغنية بتراثها الطبيعي والثقافي ذي الخصوصيات المحلية المتوطنة، والتي تتداخل وتتكامل في انسجام ضمن منظومات بيئية تتطلب حمايتها عدم الإخلال بتوازناتها. فمن شأن هذه الطريق التي لا تحمل من السياحة سوى الاسم أن تخل بهذه التوازنات، وأن تلغي قيمة هذا التراث وأن تمسخ هذه المشاهد السياحية بالدرجة الأولى. فالطرق السياحية لا ينجزها المقاول العادي ولا يخططها أيا كان من المواطنين أو المسؤولين، إداريين كانوا أو منتخبين، وإنما لها مواصفاتها ولها خبراؤها الذين يفقهون أبعادها ويدركون مرامي إنجازها ويعون وظائفها ويسهرون على ضمان تناغمها وانسجامها مع طبيعة المواضع التي تخترقها.
التصنيفات الوطنية والدولية التي حظيت بها واحة فجيج
حظيت واحة فجيج بالتفاتات هامة نتيجة للمجهودات الجبارة التي بذلت محليا وجهويا ووطنيا ودوليا من أجل العمل على رقيها إلى مصاف تراث الإنسانية لدى اليونسكو، وهو تصنيف لن يعود على الواحة إلا بالنفع، بل ويستفيد منه الإقليم والجهة والوطن، علما بأن عمليات التصنيف قطعت أشواطا شبه نهائية، بعد تصنيفات أخرى سابقة، وهي كما يلي:
-صدور قرار للجنة التراث في العالم الإسلامي خلال الاجتماع الاستثنائي الذي عقد في الرباط يومي 2 و3 ديسمبر2019، في مقر المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إسيسكو)، بوضع واحة فجيج في القائمة النهائية للتراث الإسلامي؛
قرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) بوضع واحة فجيج ضمن القائمة الإرشادية التمهيدية لمواقع التراث العالمي (بتاريخ 30 ماي 2011)، في انتظار التصنيف النهائي،
https://whc.unesco.org/fr/listesindicatives/5625
قبول واحة فجيج (بقصورها وتدبيرها الاجتماعي للسقي) ضمن قائمة المواقع المقترحة للتصنيف لدى منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة
( http://www.fao.org/giahs/giahsaroundtheworld/proposed-sites/near-east-and-north-africa/ksour-and-irrigation-management-in-figuig/en/ )
استنتاجات
إن الذين قاموا بتخطيط هذ الانجاز وتوطين مَسيره وضبطه ينعدم لديهم الحس البيئي، الطبيعي والثقافي على السواء، كما يفتقرون إلى الذوق السليم لإدراك جمالية المشاهد التي يعرضونها للدمار والخراب بالجرافات والحفارات؛
التذرع بإنقاذ البساتين المهملة بتقوية ولوجيتها يكذبه الواقع حيث أحواش أولاد سليمان والوداغير المهملة تتصل بأوسع المسالك وأجودها حيث أن ظاهرة الإهمال اجتماعية واقتصادية بالأساس، تتداخل فيها عوامل عدة مثل قضايا الإرث والاغتراب والمردود وتراجع الموارد المائية وشيخوخة المغروسات؛
كيل الاتهامات المجانية والنعوت المخجلة للداعين إلى احترام القوانين والالتزام بالمساطر وحماية التراث ينم عن جهل وفظاظة رغم أن بعض أصحابها أطر تربى كثير منها في أحضان العلم وتدرجوا في أسلاك التربية والتكوين، بل ويتحمل بعضم مسؤوليات إدارية؛


نعت الأطر العليا المتخصصة والخبيرة في قضايا البيئة والتنمية والتهكم على لغتهم العلمية ورفض مواقفهم المتزنة واتهام البعض لهم بالسعي إلى التكسب بإنجاز الدراسات أمر محبط وضرب لأسس التنمية التي يتبجحون بالسعي إلى تحقيقها بهذا الإنجاز ذي المواصفات غير المبررة وغير المدروسة العواقب؛
إن تجاهل القوانين والمساطر والسكوت عن ذلك يكشف مؤامرة حقيقية ضد رقي واحة فجيج إلى مصاف تراث الإنسانية لدى اليونسكو، وربما يعكس منحى للاستفراد بمواردها السياحية المتميزة لخدمة جهات قد يقودها الجشع متذرعة بتنمية الواحة بمشروع لا يأبه بالقيمة الحقيقية لتلك الموارد وبدورها في التنمية المحلية؛
إن ما يلحق هذه الموارد التراثية من خراب ومسخ وطمس لمن شأنه أن يقوض المجهودات الجبارة التي بذلت محليا وجهويا ووطنيا ودوليا من أجل التصنيف الذي لن يعود إلا بالنفع للواحة والإقليم والجهة والوطن؛
دراسة “استدراكية” للتأثير البيئي للمشروع
كان من المفروض أن تنجز دراسة للتأثيرات البيئية للمشروع قبل إتمام صفقة بناء الطريق المعنية، غير أن ما حدث عكس ذلك تماما، حيث لم تتم هذه “الدراسة” إلا بعد الانتهاء من شق الطريق من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوصول، وبالتالي جاءت مضامين الدراسة المعنية محشوة بتبريرات ما أنجز، في تواطؤ مفضوح مع حامليه ومدبريه، مع العلم أن المصالح المعنية بالبيئة تظاهرت أول الأمر بالوقوف في وجه المشروع مساندة للمنتقدين، لكنها سرعان ما خفت صوتها وتهاوى “صمودها” لتبدو وكأنها مدافعة عما أنجز، في موقف متأخر، بعد فترة صمت رهيب وكأنه جاء لتمكين الفاعلين من الإجهاز على الموروث البيئي والمشاهد التي من المفروض أن تكون هذه المصالح حامية لها من التشويه والتخريب والطمس والتدمير.
قراءة في مضامين “دراسة التاثيرات البيئية”
يدعي الملف (دراسة التأثير البيئي) أن استشارات تمت مع السلطات المختصة واستشارات ميدانية واتفاقات مع السكان المعنيين أنجزت، بينما الحقيقة تفيد أن المواطنين وملاك الأراضي فوجئوا بشق طريق تخرب ممتلكاتهم من البساتين وتجتث نخيلهم وأشجارهم دون أدنى معرفة مسبقة بذلك، أما أهم الأطراف المعنية وذات الاختصاص في إبداء الرأي في المشروع فقد اتضح أنها كانت في “دار غفلون” وفوجئت هي الأخرى ليس بالمشروع وإنما بالضجيج الإعلامي والحَراك الذي رافق مباشرة الأشغال.


نبه المدير الجهوي للثقافة في مراسلاته إلى أن المشروع في ماهيته يتنافى ومبدأي السلامة والأصالة، واقترح أن تتم إعادة صياغته وفق دراسات معمقة وألا يتجاوز عرض الطريق مترين إلى ثلاثة أمتار على أقصى تقدير ويخصص كمسلك للراجلين، غير أن هذا الموقف لم يجد صدى في الدراسة البعدية المرتجلة، والتي بدا الهدف منها هو سد الفراغ أكثر من الاستجابة لضرورة إجرائية والتجاوب مع الانتقادات التي وجهها المجتمع المدني للمشروع.
بدأت الأشغال مع بداية رفع الحجر الصحي في أواسط شهر يونيو، بينما لم تنجز دراسة التأثير البيئي سوى في شهر غشت، عندما وجد حاملو المشروع أنفسهم في مواجهة مفتوحة مع المنتقدين الذين لم يعثروا على ما يشير إلى وجود أي دراسة في هذا الصدد، إضافة إلى أن تقرير هذه الدراسة يدعي أن الدراسات المطلوبة أنجزت في إطار المشروع. فما الفائدة من إنجاز هذه الدراسة في النهاية، إن لم تكن لتغطية الشمس بالغربال، والتغطية على ثغرات هذا المشروع والتغاضي عن انعكاساته السلبية؟
ما الفائدة من ورود العشرات من المراجع القانونية والمسطرية (أزيد من 50، فضلا عن إحالات عديدة على اتفاقيات دولية في مجملها) والتي تهم المشروع في هذه الدراسة، بينما لم ترد أي إشارة للخروقات، مع العلم أن الدراسة أنجزت بعد شق الطريق بأكملها، وبالتالي يفترض فيها أن تكون دراسة للتقويم والافتحاص؟ وما الفائدة من إنجاز هذه الدراسة أصلا وقد فات أوانها؟ هل هي دراسة استدراكية لملء الفراغ فقط، بينما كان من المفروض أن تنجز قبليا؟ ومن يقف وراء التوجيهات التي أطرت كل ما ورد تحت الطلب ضمن هذه الدراسة؟ وهل هي دراسة تستجيب لمنطق “استر ما ستر الله”؟ ولماذا تتحدث الدراسة بصيغة المستقبل بينما الفعل المرتقب أصبح من الماضي: “سوف تمتد الطريق على 3630 مترا… وسوف تخترق قصور (كذا!) العبيدات والوداغير وزناگة وأولاد سليمان… “، وللتصحيح فإن الأمر يتعلق ببساتين وليس بقصور… ثم “سوف ينجز برنامج المراقبة البيئية بتشاور مع مصالح الجماعة والمصالح الجهوية للبيئة..” فأي تشاور وأي مراقبة بعد الإنجاز؟ فعملية شق الطريق تمت وهي أهم شيء يتطلب التشاور والمراقبة، وهذا ما لم يتم بتاتا لا كثيرا ولا قليلا… فلماذا تم تغييب هذه المصالح التي كان من المفروض أن تكون حاضرة بقوة منذ بداية وضع تصور لمشروع الطريق؟
تشير وثائق مشروع الطريق (التي تمتد على مسافة3,6 كلم) أن أهدافها تجمع بين الفوائد السياحية والزراعية والأمنية والبيئية والخدماتية وفك العزلة الاجتماعية والاقتصادية، وذلك في إطار برنامج تنمية المنطقة الحدودية وتعزيز الشبكة الطرقية بالجهة الشرقية، بمبلغ 7686 مليون درهم؛ بينما الحقيقة تكشف أن هذه الديباجة تتضمن عدة مغالطات تتضح عبر ما يلي أسفله؛
تشير الدراسة التقنية المصادق عليها في الصفقة إلى مواصفات من بينها عرض موحد بستة أمتار ونصف (!) وتجانس من حيث المواد التي لا تشمل سوى الإسفلت بقارعة الطريق، مما يجعلها امتدادا صارخا للطريق الوطنية رقم 17، تخترق شريطا ذا خصائص بيئية طبيعية وثقافية ومشهدية محمية، وقد صنفه تصميم التهيئة نطاقا ممنوعا للبناء؛ ولم تتم مراجعة بنية الطريق من حيث العرض والمواد إلا بالنسبة لبعض المقاطع وبطريقة محتشمة وغير كافية، إثر تنبيهات وانتقادات عديدة من ملاحظين ومختصين، مع العلم أن المشروع بوشر إنجازه خارج أي منظومة استشارية رسمية، ولم يشَر إلى “الملاءمة” سوى في الدراسة المتأخرة المسماة قسرا “دراسة التأثيرات البيئية”؛
يدعي أصحاب المشروع أن الطريق تخدم المواطنين وتُحسّن ولوجية ممتلكاتهم من بساتين النخيل، بينما تنعدم هذه الخدمة المزعومة في أشطر عديدة، لكون مسيرها معلقا وسط حافة وعرة يتعذر فيها تفريع المنافذ، مع العلم أن اقتراحات وجيهة بتعديل المسير تقدم بها خبراء وأطر متطوعون ذوو دراية، من أجل تحسين أداء هذه الطريق وتوخيا لإسهام حقيقي في فك الانزواء، لكنها لم تؤخذ بعين الاعتبار، وذلك لأسباب مجهولة تطرح علامات استفهام؛
إن الطرق السياحية تخضع لمواصفات مضبوطة بدقة لضمان نجاعتها وانسجامها وتناغمها مع الموارد والأنشطة السياحية، من مواضع أثرية ومشاهد بمكوناتها الطبيعية والثقافية، تستحضر مواد محلية وتستبعد المواد الدخيلة الناشزة، لتجنيب التراث المحلي البصمات المؤذية والمبشعة؛ إلا أن هذه الطريق وضع لها تصور مقاولاتي فجّ وعديم الذوق والحس، لا يفرق بين الخلاء الموحش العادي وبين المجال الواحي التراثي الذي يزخر بمؤهلات تنموية سياحية وثقافية وزراعية واقتصادية واعدة وهي في حاجة إلى مبادرات على مقاسها؛
تشير الدراسة إلى أن القطاع الطولي للطريق تم تخطيطه في توافق مع الإكراهات الهندسية والجيوتقنية، بينما لم يراعَ ذلك مسبقا في الدراسة التقنية وهي الوحيدة المنجزة قبل إبرام الصفقة، بل عاش المشروع ترددا وتخبطا وعشوائية في بعض المقاطع، في غياب تصور ناضج، مما يعكس غياب العمل الميداني القبلي والافتقار إلى الدراية المطلوبة والمستحقة؛
إن الكثير مما ورد في الدراسة عبارة عن إسقاطات نظرية صالحة لكل بيئة ولكل وسط، تم تعديله جزئيا ليتطابق مع المجال الواحي، لكن يبقى في مجمله نظريا ومتجاهلا للحقيقة الميدانية، مما يعكس ارتجالية المبادرة والطابع الاستدراكي لمحاولة الالتفاف على الثغرات والأخطاء الشنيعة التي طبعت المشروع؛
وللمثال لا الحصر، ورد موضوع “المشاهد” ومدى تأثرها بإنجاز الطريق، بصفة محتشمة لا تتجاوز الجوانب التقنية في سياقها النظري، دون ملامسة للواقع الحقيقي للمشاهد المخترقة والمقتحمة عمليا، مع العلم أن المشهد أبعد وأعمق من النظرة السطحية الواردة في الدراسة، باعتباره مكونا بيئيا أساسيا للمجال الجغرافي المدروس، يتطلب حماية وصيانة وتثمينا، ولا يعي أبعاده المتعددة وخطورة تشويهه ومسخه إلا الدارس المتخصص، والذي له دراية في المعالجة البيئية للمشاهد؛
إن تصنيف التراث يعكس الرغبة الملحة في حماية الذاكرة، ضمن الحقوق الثقافية وقد نصت المادة الخامسة من إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي حيث تؤكد على أن: الحقوق الثقافية جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان التي هي حقوق عالمية ومتلازمة ومتكافلة. ويقتضي ازدهار التنوع المبدع الإعمال الكامل للحقوق الثقافية كما حُددت في المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي المادتين 13 و 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومما لا شك فيه أن تشويه المعالم التاريخية والمناظر الثقافية هو محو لذاكرة ستسألنا عنها الأجيال المقبلة، إذ أن لها حقا فيها وهذا الحق لا يجوز سلبه.
وفي الخلاصة، لابد من الإشارة إلى ضرورة تفعيل التدخلات من أجل:
افتحاص الجوانب القانونية والمسطرية في انجاز هذا المشروع.
الإيقاف المرحلي للأشغال لتفادي الهفوات التي عرفها المشروع منذ انطلاقه وتجاوز النواقص التقنية والإدارية وذلك بإشراك جميع الجهات المعنية.
إعادة النظر في شكل الطريق ومساره وأبعاده ومواده، انسجاما مع سياحة متوخاة ذكية ومسؤولة ومتضامنة ومنصفة، تسهم في التنمية المستديمة وتحافظ على الخصوصيات الثقافية والطبيعية لواحات وقصور فجيج.
مجموعة من فعاليات المجتمع المدني

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock