أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

كتاب : فرسان الأنفاق…للمؤلف قاسم رابح واعمر ـ الجزء 2 ـ

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

الفصل الأول
***
…بدأت في قراءة ما كتبت وقد بدا لي في وقت من الأوقات أن القسم أصبح كله آذانا صاغية… إذ أن زملائي كانوا يسمعون إلي جيداً وينظرون إلي بكل إمعان…
وأخيرا … الشهادة الابتدائية.
كان صيف تلك السنة صيفا مباركا جميلا … وكانت تلك السنة، سنة طالع اليمن والخير، بل وكانت سنة تاريخية بالنسبة لي بحيث حصلت فيها على الشهادة الابتدائية التي كانت تقف عقبة كأداء أمامي .. وأمام تحديد معالم مستقبلي.. لقد انتظرت ثلاث سنوات، عشت خلالها ألوانا من العذاب وألوانا من الإهانات، كدت خلالها ولعدة مرات أن أرتكب حماقات في حق نفسي وحق أهلي الذين آزروني،.. وخاصة والدتي التي كانت تقف دائما بجانبي تشجعني على الصبر والمثابرة والمضي قدما…وأنه مهما طال الصبر فلا بد من يوم الفرج… ثلاث سنوات، ثلاث مرات أعيد فيها امتحان الشهادة الابتدائية… حتى أصبحت قاب قوسين من اليأس من نفسي… وذلك رغم الاجتهاد والكد والعمل ورغم حفظي عن ظهر قلب للمقرر التعليمي الخاص بهذه السنة.. سنة قسم الشهادة المشؤومة..
كنت عائدا من السوق الأسبوعي..حيث أمضيت يوما كاملا مع زملائي، وخاصة منهم أحمد، الذي نجح هو الآخر وعاش هو الآخر نفس المرحلة التي عشتها، وقد أخذت الفرحة بلبه طوال اليوم، وكانت لألأة السرور قد أكسبت عينيه بريقا نادرا ما كان يظهر عليها…كنت أمشى في الطريق التي كنت أقطعها مع أصدقاء طفولتي صباحا ومساء، وصيفا وشتاء ..هذه الطريق الشاقة الطويلة التي أحفظ تضاريسها، ..أحفظ منعرجاتها وأوديتها.. وصخورها الناتئة التي تحف جانبيها.
ولا شك أن لي مع كل ذرة من تراب هذه الأماكن، ذكريات مؤلمة في أغلبها، ذكريات مع الأودية وأشجارها ومياهها ..حتى مع القبور التي كنت أمر بجوارها..ومع الزواحف التي كانت تعترض طريقي وكأني بها قد ألفتني وكانت تنتظر مروري.
كانت الطريق خاوية إلا من بعض القرويين الذين تأخروا في السوق.. كان بودي أن أسأل ..أن أصيح بأعلى صوتي في الجماد والحيوانات هل هي سعيدة لنجاحي..وهل سوف تحزن لفراقي الذي قد يطول ..قد يكون إلى الأبد…قد لا أراها بالمرة في حياتي بعد بضعة أسابيع…،
مررت قرب المدرسة..ومن النافذة المكسورة… وقفت استرق النظر إلى داخلها إلى الطاولات القديمة والكراسي الفارغة ..إلى السبورة التي تبدو حزينة وقد فقدت لمعانها..مددت وجهي أكثر إلى الداخل لأستنشق رائحة لا يشمها إلا الذين تتلمذوا على يد سي حمو وسي مبروك وسي محمد وسي عبد الرحيم …كل له نكهته الخاصة:
سي حمو غبش الطفولة وشغب الكتاب والوطنية الناطقة بالأناشيد.. بكلمات متقاطعة ووعرة كتضاريس القرية: ملك المغرب.. شعب المغرب.. الفداء.. الثورة.. محمد الخامس.. الحسن الثاني.. اليوم هيوا للحروب هيوا… الزرقطوني… الاستعمار… الاستقلال…
سي مبروك: رائحة الدم والألم والخوف والألوان السوداء القاتمة، على خلفية العويل والصراخ الدائم والأنين وطعم قطرات البكاء المالح، الأمراض، الكآبة، الإسهال، القيء، الشر الذي يمشي فوق الأرض ثم التحدي وإثبات الذات..
سي محمد: رائحة الطباشير وإكليل الجبل وأحرف عربية بخط جميل تخرج من أنامل فنان وكأنها تهوى من قدسية السماء لتحط على سواد السبورة، أصوات أجيال ترتل القرآن ورياح خفيفة تعبث بحقول القمح والشعير وشقائق النعمان…
سي عبد الرحيم: رائحة العرق والجد والاجتهاد على خلفية الصبر والأمل، نفق مظلم طويل وسير على الأقدام، عطش كبير، وتعلم الانتظار.. على أبواب الرجولة التي لا ترحم، “ثافلوث… أو لعبة الحظ”.. والحياة لا معنى لها بدون مثابرة…وأخيرا يستجيب القدر…
هؤلاء هم أحجار الزوايا الذين انبنى عليهم صرح وعي أبناء القرية من جيلي، هؤلاء من أوكلت إليهم المشيئة الإلهية تربية جيل ما بعد الاستقلال بمدارس سيدي لحسن- أولاد اعمر-.
مررت بالأودية والقبور…زرت دهاليز أشجار الدفلى التي خبأتني في يوم من الأيام عن الأنظار.. عندما أعلنت الفرار وأشهرت سيف التحدي في وجه “مبروك الجلاد”…
وشاءت الأقدار أخيرا أن أحصل على هذه الشهادة الجحود، وفجأة فتحت كل الأبواب التي كانت موصدة أمامي ومن حولي.. وفجأة وقف والدي حائرا أين سيوجهني لمتابعة دراستي…
إلا أن الشهور الصيفية الطويلة قبل فاتح أكتوبر كانت كافية له لكي يقرر، خاصة وأن الاختيارات ليست كثيرة … إما تاوريرت وإما جرادة !؟
الرحيل إلى تاوريرت
ودقت ساعة الحسم عندما أمرني والدي بجمع أغراضي والتأهب للسفر إلى تاوريرت.
وكان يوم الخميس الأول من شهر أكتوبر من صيف سنة 1964… وكان القرويون بسوق سيدي لحسن منهمكين في شراء ما يلزمهم من بضائع وعلى رأسها السكر والشاي ثم الخضر بالنسبة للذين يقطنون الأراضي الجافة ولا يملكون أرضا مسقية لكي يزرعوا بها البطاطس والبصل، والنعناع والطماطم والفلافل …أما الملابس فإن القرويين لا يفكرون فيها إلا عند الحاجة القصوى، أي عندما تتمزق الملابس التي يلبسونها، ناهيكم عن الأحذية، التي يرقعونها مرات ومرات قبل أن يستسلموا ويقتنعوا بشراء أحذية جديدة.
خلال هذا اليوم التاريخي في حياتي، كانت والدتي التي لا تزور السوق إلا لماما قد قررت مرافقتي إلى السوق لتوديعي…وكانت تنظر إلي طوال الوقت.. وإذا كانت في الصبيحة قد كفكفت من دموعها، فإنها ومع اقتراب موعد مغادرة الحافلة إلى تاوريرت، قد نفد صبرها وتركت جداول الدموع تسيل بدون انقطاع على خديها المحمرين..
لقد حاول الأقارب مواستها، وخاصة شقيقها خالي محمد، الذي أغرقها بنكته ومستملحاته لكي يخفف عنها، إلا أن المسكينة كانت في شأن آخر ربما لا تفهمه إلا الأمهات!
كنا جالسين خارج السوق وكان بعض الأقارب حافين بي وبوالدتي التي ضمتني إليها، عندما جاء صديقي أحمد يستعجلني نظرا للحافلة التي تتهيأ للمغادرة… انتزعني والدي من أحضان أمي وألقى على ظهري حقيبة ملابسي، وقال لي ساخرا:
ـ أنجو بنفسك قبل أن تغرقك بدموعها..
وجدت أحمد قد حجز لي مقعدا بجانبه قرب النافذة التي تطل على المكان الذي كانت تجلس فيه والدتي ،بينما والدي كان قد حجز في المقاعد الأمامية…
جلست بمكاني..وجدت نفسي أركز نظري على والدتي التي تودعني في صمت … وفجأة أحسست بأني لم أعد أقوى على امتلاك زمام دموعي التي تركتها تسيل على خدي … ولا شك أن أحمد قد لاحظ ما بي فتركني لبعض الوقت علني أهدأ من روعي… بكيت كثيرا… بكيت في صمت المستسلم للأمر الواقع،..وفي أعماق نفسي لم أكن أدري لماذا أبكي.. ربما فقط لأن والدتي كانت تبكي.. مسكينة !… لاشك أنها سيغمى عليها كالعادة! ولكنها وسط الأهل والجيران ولاشك أنهم سيهتمون بها…
كانت الساعة حوالي الرابعة بعد الزوال عندما وصلنا إلى تاوريرت، ومن محطة الحافلة كان والدي يستعجلنا بأن نسرع الخطو إلى مقر القيادة حيث كان علينا زيارة خليفة القائد لكي نطلب منه التسجيل بإحدى الدور الخيرية حيث يمكن أن نعيش حتى نتمكن من متابعة دراستنا..
كنا جالسين في بهو الانتظار عندما فاجأنا “لمخازني” أن السيد الخليفة بانتظارنا..دخل والدي مكتب السيد خليفة القائد ودخلنا من ورائه، ثم سلم على الخليفة بانحناءة مبالغ فيها، وبأسلوب مؤدب، شرح للمسؤول أن حالتنا المادية ضعيفة، وأني وصديقي نرغب في متابعة دراستنا، وليس بإمكاننا استئجار بيت نسكن فيه، ولا حتى تمويل النفقات الخاصة بمتابعة الدراسة…
كان الخليفة يحملق في الكهل من رأسه إلى قدميه ثم يلقي إلينا نظرات حادة وكأنه يتفحص من خلالها صحة ما يقول والدي…
وحتى قبل أن ينهي والدي التماسه، فإن السيد الخليفة قطع رجاءنا بصوت خشن يكاد يخرج عن حدود اللياقة:
– لا! لا! ليس لدينا خيرية ، ولا نملك أية إمكانية لإيواء التلاميذ.. لا! لا! كل الناس ضعفاء، ولكنهم يتابعون دراستهم على حسابهم …بيعوا أراضيكم أو بيعوا ماعزكم وتابعوا دراستكم … !
اعتذر والدي وسلم هذه المرة بإشارة خفيفة بيده وبدون انحناء، ثم خرجنا لا نلوي على شيء…
***
تحويل الاتجاه إلى جرادة..
بعد مشاورات سريعة بيننا وبين والدي، قررنا بأن نسافر إلى جرادة لمتابعة دراستي هناك… وكان علينا اصطحاب أحمد معنا .. وكنا نعلم بأن والده سوف لن يقبل بمتابعة ابنه دراسته بجرادة، إلا أن والدي ونظرا للمسؤولية التي تحملها، فإنه لن يترك أحمد لوحده بتاوريرت خاصة في غياب وسائل النقل من المدينة إلى سيدي لحسن في مثل ذلك الوقت… إذا فإن سفر أحمد إلى جرادة كان من باب الاضطرار فقط وسيعود إلى القرية… ومنها سيقرر الكيفية التي سيتابع بها دراسته.
وصلنا إلى جرادة ليلا، وحططنا الرحال عند شقيقتي التي وجدناها وزوجها يتأهبان للنوم. كان الفصل صيفا، وربما كانت المدينة في الصيف أقل تلوثا من فصل الشتاء نظرا للعزوف المؤقت عن التدفئة بالفحم الحجري… ومع ذلك فإن الغرباء عن المدينة يشمون رائحة خاصة بجرادة، سرعان ما يألفونها..
وكانت أول ملاحظة لأحمد الذي لم يسبق له أن زار جرادة من قبل هي حول هذه الروائح الكريهة التي تزكم الأنوف !!
***
توديع أحمد
كان على أحمد أن يستيقظ باكرا ليستقل أية شاحنة ويعود إلى القرية! ولا شك أن والده سيقوم بمبادرة أخرى لدى قيادة تاوريرت لتسجيله بإحدى دور الخيرية …أو ربما سيكتري له بيتا يعيش فيه…
وفي لحظة توديع أحمد..، في تلك اللحظة فقط أحسست بأني أودع صديقا عزيزا وغاليا ،أكن له كل الحب والتقدير… إن المشاكل المادية والمعاناة والاحباطات التي عشناها سويا لزمن طويل، والتي كنا نتبادل الآراء بشأنها، كيف سنحياها وما هي أحسن السبل للتغلب عليها، قد جعلت منا صديقين مخلصين ولم أكن أعتقد أن فراق أحمد سيولد لدي فراغا كبيرا، بل وكآبة سيلازمانني لمدة طويلة، وبفراق أحمد بغتة، أحسست وكأن تساؤلات كثيرة بدأت تطل علي من كل جانب، وتلح علي بأن أجد لها الجواب الشافي … أحسست فعلا أن أحمد كان بالنسبة لي صديقا مخلصا من أصدقاء طفولتي، وأنه كان من هؤلاء القلائل الذين آزروني في كثير من المحن والمواقف الصعبة..في أحرج محطات حياتي التي كانت اكثر عرضة للهيب اليأس..
في الواقع، أحمد كان أكثر من زميل الدراسة، كان أكثر من صديق الطفولة البئيسة…كان لوقت معين طرفا رئيسيا في كل المعادلات التي تهمني…كان شعوري نحوه شعور من سيفقد الشاهد الوحيد على مأساة درامية وقعت على شفير هاوية لم يشهد كامل فصولها المؤلمة إلا هو…
وداعا أحمد ولترافقك السلامة !

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock