أخبار محليةأخبار وطنية - دولية

من كتاب لم ينشر بعد: والدي يصاب بوعكة صحية بالحافلة..

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

رابح قاسم
كانت أشعة الشمس حارة جدا وكان يخيل للناس الذين تجمهروا في محطة الحافلة التي تربط المدينة بحي “اظهر لمحلة”أو “لازارى” ،أن الأشعة تنزل عمودية فوق رؤوسهم…و كل منهم راح يتقيها بما توفر لديه من أشياء كالجرائد أو قطع الورق المقوى … قرر والدي بأن نزور عائلة ابن شقيقه بالقاسم الذي انتقل قبل سنوات من مدينة “سيدي بوبكر” حيث كان يشتغل بالمنجم إلى مدينة “وجدة “…ولم يكد يستقر به الحال حتى قرر السفر إلى ألمانيا الغربية من أجل الشغل…
لم يسبق لي من قبل أن رأيت بالقاسم ولكن سمعت عنه كثيرا… وقد هاجر من أولاد اعمر إلى جرادة حيث اشتغل رفقة والدي في شركة الفحم الحجري لبعض الوقت …وبعد خصام عنيف استعملت فيه الهراوات والرشق بالحجرات مع بعض المسؤولين في الشركة الذين أشبعهم بالقاسم ضربا…هرب إلى مدينة “سيدي بوبكر” خوفا من المتابعة القضائية… وقد انخرط في أعمال المقاومة ضد سلطات الحماية الفرنسية مبكرا، قام خلالها بعمليات بطولية سواء في المغرب أو في الجزائر.
كانت الكراسي في الحافلة مملوءة عن آخرها…ولم تكد الحافلة تتحرك من مكانها حتى بدأ والدي يمد يديه يمنة ويسرة وكأنه يستنجد بشيء لا يجده …هرعت إليه وأخذت بيده…ولكن جسمه النحيف بدأ يرتعش وكأنه عصفور وقع في الفخ…وقد تغير لونه إلى زرقة داكنة و تصاعدت أنفاسه وتتابعت وكأنها تصدر عن كير قديم…لفت انتباه الراكبين…حاولت أن أجلسه أرضا حتى لا يـقع على الأرض أو يصطدم بمساند الكراسي الحديدية…لاحظنا أحد الجالسين الذي قام من مكانه بسرعة وساعدني على أخذ والدي من ذراعيه حتى أجلسناه على الكرسي، وقد لاحظ باقي الركاب المجاورين حالته وقاموا من أماكنهم واقترحوا علي بأن ينام والدي على الكراسي وأسنده على ركبتي…كما حاولت أن أحرره من بعض ملابسه آلتي بدا لي وكأنها تضايقه… ولكن لم أتمكن لأن الجلباب كان محكما على صدره…قدم لي أحد الركاب زجاجة ماء بارد وصب قليلا من الماء في كفه ورش على وجه والدي…ثم ناولني الزجاجة آلتي قربتها من شفاهه والتي لم يتناول منها إلا جرعة صغيرة….وبعد لحظات خلتها قرنا، بدأ يستفيق من غيبوبته شيئا فشيئا ربما من جراء سقوط قطرات الماء البارد على وجهه… أخرجت منديلا من جيبي وبللته بالماء البارد ثم رحت أمرره على وجهه وجبهته وعنقه…حتى عاد إليه وعيه وشرب من الماء الذي قربته من شفاهه…وسأله أحد الركاب بماذا يحس فأجاب بأن لا شيء وأنها مجرد” سخفة” أو غشاوة …
وفى هذه اللحظة علت همهمة بين الركاب ،في مقدمة الحافلة تبين بعدها أن هناك ممرض اقترح عليه الراكبون بأن يلقي نظرة على حال والدي فأبدى استعداده
استعداده دون تردد.. وهكذا شق طريقه وسط الركاب راجعا إلى الجهة الخلفية…قمت
من مكاني لأتركه للممرض، بينما أسندت رأس والدي على محفظتي…أخذ الممرض يد والدي بيده اليمنى ثم أدار يده اليسرى ليلاحظ عقارب ساعته….بينما استمرت أصابعه في البحث عن عروق والدي حتى يتمكن من جس نبضه…ثم وجه سؤاله لوالدي هل يشعر بأي ألم وخاصة جهة القلب…فأجابه والدي بصوت منكسر بأنه لا يشعر بأي شيء ماعدا بعض الضيق في التنفس الناجم عن مرض السليكوز الذي أصيب به عقب اشتغاله بشركة الفحم الحجري بجرادة….
وبمجرد ذكر جرادة حتى تعالت المحادثات بين الحاضرين بشكل ملفت للانتباه، وبدأ التأفف ظاهرا على الوجوه…ولم أكن أتصور أن جرادة سيئة الصيت إلى هذه الدرجة…:
ــ شاي الله وبكم يا رجال البلاد…شاي الله وبك آسيدي محند أوصالح… ثلاثة من أهلي توفوا من هذا المرض واحد تابع الآخر …مساكن أشحال خلاوا يتامى…:كان المتكلم شخص يقف ورائي و يشرئب بعنقه إلى حيث يجلس والدي…
أما شخص كهل كان يجلس أمامنا ، استدار تجاهنا وهو يعدل من عمامته الصفراء ، فقد عقب بصوت تغلب عليه بحة تكاد تجعله غير مفهوم:
ــ بئر أكحل اللى دخلو ما يخرج منو …الله إحضر السلامة …أعلاش ما إسدوهاش؟ هذى جريمة …شوف أشحال اكلات من جيل…
قاطعه صوت من ورائي: ــ واش داروا عليهم السيف…اللى ماأبغاش يخدم ما يخدمش…
قاطعه صوت آخر:
ـــ أودى الله يحسن لعوان …حتى واحد ما اكره ..أشكون هذا اللى ابغا إموت…؟
أما الممرض الذى يبدو أنه أنهى مهمته فقد توجه إلى والدي قائلا:
ــ شوف.. الفقير…!! ما تتعبش راسك بزاف …وبالخصوص في هاذ الحرارة…ريح في الظل…البس خفيف …وخلي الماء ديما إكون معاك…وسير دير الراديو على الشربون..
فأجابه والدي بصوت منكسر تعلوه نبرة اليأس من التطبيب والأطباء :
ـ الراديو ماشى بزاف ملي درتو … الطبيب أعطانى سبعين في المائة أديال العجز والشركة ما قبلتش…و حكمت لي المحكمة بستين في المائة …ولم أحصل على أي تعويض لحد الآن…
أجاب الممرض وكأني به يريد رفع معنويات والدي:
ــ خاصك شى كاس أتاي منعنع …وخصك ترتاح…واصبر، الخير وقتما جا ينفع…
انتبهت من غفوتي….وسألت والدي عن المحطة آلتي سننزل فيها …فأجابني:
ــ قرب فران ميمون…
فأجاب الشخص صاحب العمامة الصفراء:
ــ هي المحطة الجاية…الله إجيب الشفا من عندو…
ساعدنا شاب نحيف نزل بنفس المحطة على نزول والدي من الحافلة آلتي ودعنا ركابها بالدعوات الصالحة بالشفاء العاجل لوالدي…
اقترح علينا الشاب النحيف بأن يرافقنا حتى المنزل لكي يساعدني على دعم والدي…إلا أن والدي الذي أظهر قدرة على الوقوف والمشي شـــــكر الشـــاب ودعـــا له بالتوفيق….
***** انتهى

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock