أخبار وطنية - دولية

“الحب الإلهي والاعتبار الوطني لدى الصوفية”

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

الدكتور محمد بنيعيش
شعبة الدراسات الإسلامية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة الممغرب

فبينما الناس مشغولون بالهواجس والمخاوف إذا بالآخرين متفرغين بقلوبهم وأرواحهم والسنتهم إلى مركز الأمن والإيمان وربط القلوب بربها بالشهود والعرفان ،لا خوفا من فيروس ولا هروبا من واقع ولا نسيانا للنوازل، وإنما استدرارا عن قرب شديد للطف الله وتوسلا بمحبته وبمن هم أهل لهذه المحبة وعلى رأسهم سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله والرحمة المهداة للعالمين.فكان من بين ما وظف في هذا الباب هو:”حب الأوطان من الإيمان”.الذي يعني احترام المقامات كمرادفة لهذا المعنى.فكل مقام هو وطن .
كما يقول الشيخ محمد الحراق التطواني:
فَإِذا بِالفَناءِ قَد كانَ وَهماً قَد عَراني كَسائِرِ الأَوهامِ
فأراني بأنني كنت غيرا وتحولت بعده لمقامي
وأنا لست في الحقيقة غيرا أو للغير دونكم من قيام
وقد يتوهم البعض وكأن الموضوع في واد وما نحن فيه من بلاء في واد آخر ولكن هيهات هيهات ! فالذي أنزل الداء أنزل الدواء وأمر بالدعاء.وهنا يتفاوت حظ الحبيب مع حبيبه وعلى قدر ولهه يستجاب له !
إن مسألة الحب عند الصوفية قد تعتبر عمدة أساسية في سلوكهم وأهدافهم المعرفية والكونية عموما،وهو أعلى درجات الإدراك المعرفي لديهم، وبدونه فلن يتمكنوا من العروج إلى المعرفة التي قد لا تنتهي رحلتها.
لكن مفهومه قد يختلف من شخص لآخر حسب مقامه المعرفي وحسب ذوقه لهذا الركن الصوفي والذي في حقيقته شرط أساسي من شروط كمال الإيمان وحياة الوجدان، نصت عليه آيات بينات قطعية وأحاديث نبوية واضحة المعاني في هذا الأمر.وكما يقول ابن عطاء الله السكندري:”ليس المحب الذي يرجو من محبوبه عوضا،أو يطلب منه غرضا،فإن المحب من يبذل لك،ليس المحب من تبذل له”،”إنما أجرى الأذى على أيديهم كي لا تكون ساكنا إليهم،أراد أن يزعجك عن كل شيء حتى لا يشغلك عنه شيء”

أولا: المحبة الإلهية بين الوظائف والمعارف
أ- يقول أبو حامد الغزالي :
“اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فرض،وكيف يفرض ما لا وجود له و يفسر الحب بالطاعة والطاعة تبع للحب وثمرته ؟
فلابد وأن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب،ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز وجل:”يحبهم ويحبونه”وقوله تعالى:”والذين آمنوا أشد حبا لله”،وهو دليل على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه “.
بهذا فالموصل المنجي إنما هو: “حب الله تعالى ولا يتصور حب الله تعالى إلا بمعرفته،ومعرفته ثلاث : معرفة الذات ومعرفة الصفات ومعرفة الأفعال “.
إذن فالمحبة مقام مستقر ثابت وليس عرضا من الأعراض التي تمر على المريد وهو في طريقه إلى الله تعالى.
لهذا فبجعلها هي الغاية القصوى قد تكون مرنة تتشكل على الأعراض المختلفة لكنها تبقى في جوهرها واحدة لا تتغير،قد سبقت فيها السابقة فكان منها أن تولى الله سبحانه وتعالى أمر من أحبه وأدخله في إطار جبرية الولاية وهي كمال السعادة البشرية . فالمحبة الحقيقية لا تكون إلا لله تعالى، وكل محبة لا يرى فيها فهي من قصور المعرفة به.
من هنا يخصص عنوانا في كتاب إحياء علوم الدين يذكر فيه “أن المستحق للمحبة هو الله وحده،وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود لأنه عين حب الله تعالى،وكذلك حب العلماء والأتقياء،لأن محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب ومحب المحبوب محبوب وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل فلا يتجاوزه إلى غيره،فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي الأبصار إلا الله تعالى ولا مستحق للمحبة سواه”.
إن القول بالتعدي في المحبة على صيغة: محبوب المحبوب محبوب، يكاد يتطابق لدى تقي الدين بن تيمية كسلفي مجار للصوفية في المجال وذلك كما يرى أن “محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب ، فإذا أحب أنبياء الله وأولياءه لأجل قيامهم لمحبوبات الحق لا لشيء آخر فقد أحبهم لله لا لغيره،وقد قال الله تعالى:”فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين “ولهذا قال :”قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله”…”.
ب- أما اعتبار أن المحبة لله لا تتصور إلا بمعرفته فإنه يكاد يوافق الغزالي مع الفوارق في مفهوم المعرفة، فنراه يقول:”ولا يتم الإيمان والمحبة لله إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر،ومن الإيمان بما أخبر الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله،فمن نفى الصفات فقد كذب خبره.
ومن الإيمان بما أمر: فعل ما أمر،وترك ما حظر ومحبة الحسنات وبغض السيئات ولزوم هذا الفرق إلى الممات “.
كما يذهب إلى أن محبة الله سبحانه وتعالى هي أقصى الغايات وأنها منتهى السعادة البشرية وذلك لأنه سبحانه وتعالى جعل سعادة القلب كامنة في محبته، وكلما عدل عن هذه المحبة كان نصيبه الشقاء و الانحراف.
لهذا فإن الحب ركن أساسي للقيام بالعبادة وامتثال أوامر الله سبحانه وتعالى:”وإذ تبين هذا فكلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه،والقلب فقير بالذات إلى الله من وجين:من جهة العبادة وهي العلة الغائية ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلية.
فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يسر ولا يطيب ولا يكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه،ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن،إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة “.
وهكذا يلتقي الرجلان على مائدة واحدة هي المحبة والقول بأن الحب هو أساس الأعمال الصالحة ومحركها،وما الطاعات إلا نتائج من نتائجه “وكيف يفسر الحب بالطاعة والطاعة تبع للحب وثمرته “كما يقول الغزالي.
كما نرى ابن تيمية يقول بأن في القلب فقرا ذاتيا إلى الله تعالى وهو سبب المحبة والدافع إليها، فهل يا ترى هو نفس ما بنى عليه الغزالي مفهومه لها أم أن لها أسبابا قد تختلف باختلاف مستوى الشخص السالك طريقها؟.

2) الخصوصية الذوقية للمحبة الإلهية

أ- حينما ذكر الغزالي أسباب المحبة حصرها في خمسة كالتالي:
“السبب الأول: حب الإنسان نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده وبغضه لهلاكه وعدمه ونقصانه وقواطع كماله فهذه جبلة كل حي.
السبب الثاني : حبه من أحسن إليه فواساه بماله ولاطفه بكلامه وأمده بمعونته … وهذا بعينه يقتضي أن لا يحب إلا الله تعالى،فإنه لو عرفه حق المعرفة لعلم أن المحسن إليه هو الله تعالى فقط .
السبب الثالث : حبك المحسن في نفسه وهذا موجود في الطباع ،وهذا يقتضي حب الله تعالى،بك يقتضي أن لا يحب غيره أصلا .
السبب الرابع : حب كل جميل لذات الجمال لا لحظ ينال من وراء إدراك الجمال وهذا مجبول في الطباع .
السبب الخامس : هو المناسبة والمشاكلة لأن شبه الشيء منجذب إليه والشكل إلى الشكل أميل،وهذا السبب يقتضي حب الله تعالى لمناسبة باطنة لا ترجع إلى المشابهة في الصور والأشكال بل إلى معان باطنة يجوز أن يذكر بعضها في الكتب وبعضها لا يجوز أن يسطر،بل يترك تحت غطاء الغبرة حتى يعثر عليه السالكون للطريق إذا استكملوا الشروط “.
فالسبب الأخير من أسباب المحبة يعتبره من أرقى مقاماتها وهو ما أثار جدلا حول هذا المفهوم لديه مما جعله يلح على حقيقته وإمكانه،محيلا المناظرين لأقواله حوله على كتابه “إحياء علوم الدين ” لأنه اعتبر ما وصل إليه من تفسير وتقسيم لأسباب المحبة ومستوياتها لم يسبق إليه من طرف الكتاب قبله،فنراه يقول :
“اعلم أن أكثر المتكلمين أنكروا محبة الله تعالى وأولوها وقالوا لا معنى لها إلا امتثال أوامره ،وإلا فما لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا ولا يناسب طباعا فكيف نحبه وإنما يتصور منا أن نحب من هو من جنسنا،وهؤلاء محرومون بجهلهم بحقائق الأمور وقد كشف الغطاء عن هذا في كتاب المحبة من كتب الإحياء فطالعها لتصادف منها أسرارا تخلو الكتب عنها”.
لهذا فحقيقة المحبة عنده قد تفهم بنفس الأسلوب الذي يفهم به المتشابه من الآيات والأحاديث،إذ لا يقتصر في فهمها على الأوصاف اللغوية أو التحليلات العقلية،وإنما يجعل الوصول إلى فهمها لا يمكن إلا بواسطة العمل الدءوب وإخلاص النية لله سبحانه وتعالى وطاعته حتى يحصل لدى السالك هذا الشعور ذي الميزة الخاصة.
فلا يعبر عنها بالأقوال بل إنها ذوقية في حد ذاتها و معرفية في آن واحد،لا يتوصل إليها إلا بقطع عدة مراحل تطهيرية للنفس،وكل من عبر عن حقيقة المحبة لله سبحانه وتعالى بالألفاظ فإنه لا يعبر إلا عن دوافعها وثمراتها.
أما ابن تيمية فنراه قد يلتقي به في السبب الأول الذي ذكره وهو “حب الإنسان بقاءه وكماله ودوام وجوده وبغضه لهلاكه وعدمه ونقصانه . . .”. ومن أسباب بقائه حب وطنه الذي فيه معاشه وتنعمه وتعبده وذكره وصلاته وتعلمه وتناسله وتواصله ،وفيه كماله بأخيه المواطن وبحاكمه الذي يدير شؤونه كولي لأمره.وهذا ما نصت عليه الآيات والأحاديث النبوية حينما ربطت طاعة الله بطاعة الرسول وأولي الأمر منكم،أي من أوطانكم .والطاعة إذا كانت بين الحاكم والرعية قائمة على المحبة فتلك هي الغاية والثمرة وسلامة المآل والمسار.
لكن هذا السبب نفسه قد يعتبره الغزالي من جبلة كل حي،وهو مفهوم عام للفقر الذي هو نقص والناقص محتاج بطبيعة الحال وطالب للكمال،ولهذا فمحبته ستكون من أجل هدف تعويض النقص بالاستعانة بالكامل،وهو يدخل في باب الدافع للمحبة وليس عينها أو حقيقتها.
ب- فمحبة الله تعالى لها خصوصياتها التي تتميز بها ولا يشترك معها أي نوع من أنواع المحبة المجازية بين المخلوقات.
أما ابن تيمية فيرى أن المحبة جنس تحته أنواع كثيرة،فكل عابد فهو محب للمعبود، فالمشركون يحبون آلهتهم كما قال تعالى:”ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله،والذين آمنوا أشد حبا لله” وفيه قولان : أحدهما يحبونهم كحب المؤمنين الله،والثاني يحبونهم كما يحبون الله لأنه قد قال “والذين آمنوا أشد حبا لله”فلم يمكن أن يقال إن المشركين يعبدون آلهتهم كما يعبد الموحدون لله بل كما يحبونهم لله فإنهم يعدلون آلهتهم برب العالمين كما قال :”ثم الذين كفروا بربهم يعدلون”وقال:”تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين”…”.
وهذا الفهم مرجعه أولا إلى القياس النفسي كما هو الشأن الذي سلكه عند القول في مسألة الذوق الذي رد حقيقته إلى الميل الإرادي والنزوع الانفعالي الذي لا علاقة له بالمعرفة إلا من باب المساعدة عليها وليس من باب أنه أداة معرفية في حد ذاتها أو غايتها.
وبالعبارة الصوفية فإن ابن تيمية يعتبر المحبة حالا وليست مقاما،وهو مكتسب وليس عطاء أو موهبة،إذ أن البادرة في تحقيقه تأتي من العبد وهو مسئول عن تقدم هذا الحب أو تراجعه وذلك بقدر أعمال الطاعة التي يلتزم بها.
باختصار أقول : فلا الغزالي ولا ابن تيمية يستطيعان أن يوصلا حقيقة المحبة إلى الأذهان وتبليغها عن طريق التصورات العقلية لأنها محبة ليست كالمحبات المألوفة بين البشر والمخلوقات عموما، وإنما هي محبة بين مخلوق وخالق،مخلوق ضعيف لا وجود له بذاته وخالق أحد “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” .
فلقد كان الغزالي موفقا حينما قال بأن معاني المحبة لا يستطيع القلم أن يخوض فيها بل ينبغي أن يتوقف عن الكتابة في أمرها ويترك تحت غطاء الغبرة حتى يعثر عليها السالكون للطريق إذ استكملوا الشروط ،فتبقى حقيقتها رهينة بأهلها ،أهل الخصوصية، وهم الصوفية، كما يقر بذلك ابن تيمية نفسه :”وأما الصوفية فهم يثبتون المحبة،بل هذا أظهر عندهم من جميع الأمور،وأصل طريقهم إنما هي الإرادة والمحبة،وإثبات محبة الله مشهور في كلام أولاهم وأخراهم كما هو ثابت بالكتاب والسنة واتفاق السلف”.
فالتركيز على كلمة السلف في نهاية النص محاولة لإقحام السلفية في باب المحبة ولكن بالمعنى الضيق الذي سبق أن عالجناه،وليس بالمفهوم الأوسع الذي عبر عنه الغزالي بشكل موضوعي واتساع معرفي لا حدود له ولا تستطيع العبارة أن تلخصه…
وعلى هذا فمحبة الله بالنسبة إلى الصوفية هي التي تجعل من العالم كتلة نورانية متناسقة على كل الأصعدة ،ابتداء من الإنسان حتى مجمل الأكوان،ولا يرون فيما يجري إلا تصاريفه وتدبيره الحكيم ولطفه العظيم،كما أن الوطن وحبه ومحيطه قد يكون هو القاعدة الرئيسية لانطلاق كبسولة المحبة الإلهية ،بوقود الذكر ،والتي لا يحجبها غلاف ولا يوقفها خلاف.:”وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه”.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock