Non classéالأخبارالمولودية الوجدية

من شجون الإبرة

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

محمد شحلال

ما إن يرد لفظ الإبرة على الألسن ،حتى يحضر الوخز بكل درجاته إلى الأذهان،حتى صارت كل إصابة حادة تحيل على هذا المصنوع الذي لا يكاد يخلو منه بيت،لا سيما تلك البيوت التي لم تتخلص بعد من الفتق والرتق.
إن وخز الإبرة مؤلم،لكن دورها لن يتنكر له إلا جاحد،رغم أننا لم نتمكن بعد مرور كل هذه السنين الطويلة من إنتاج إبرة ببراءتنا !
وهكذا، وسواء كانت الإبرة من إنتاج الصين أو غيرها من ،،الكفار،،فإننا نحن-معشر الفقراء-ندين لهؤلاء الناس بكثير من الفضل ،بل إننا نخصهم بشيء من دعواتنا غير المستجابة في الغالب،حيث إن الإبرة قد ساهمت في سترنا على مدى سنين عديدة خلت.
كانت الإبرة في زمان الندرة الشاملة التي عشنا نصيبنا منها إلى حدود الستينات من القرن الماضي- على الأقل-كانت جزءا من المتاع الذي لا غنى عنه في كل بيت ،حتى يستجيب لكل أفراد الأسرة الذين يشتركون في الحاجة إلى الترقيع الدائم في الثياب،وفي كثير من جوانب الحياة.
وليس من المبالغة إذا جزمنا بأن بعض الأسر لم يتوفر لديها هذا المتاع،فكانت مضطرة لاستعارتها من الجيران الذين كانوا يقدمونها على مضض مخافة ضياع،،ثيصينفث،، مما قد يتزامن مع طوارىء في ملبوس لا نسخة له، فكيف إذا كان ،،المصاب،،مدعوا لمناسبة حصل خلالها عطب في الجلباب أو السروال اليتيم ؟
ولما كان نمط الحياة عبارة عن نسخ متطابقة لدى كل الأهالي،فإن التذكير بدور الإبرة كمتاع في الحالة العادية،وعارية في كثير من الأحوال، يغني عن المقارنة.
كان في البيت مكان معلوم مخصص لعلبة معدنية استنفذت دورها الأصلي،فحولتها الأم إلى حافظة للإبرة وقطع الغيار المرافقة لها.
كانت العلبة ذات قفل يضمن عدم ضياع الإبرة التي تظل مشدودة إلى بقية من خيط لغايتين: فوجود الخيط ييسر استخراج الإبرة من بين ،،العفش،،من جهة،ويسمح بربح الوقت في حالة الاستعجال من جهة أخرى.
كانت العلبة المحترمة تضم إلى جانب الإبرة،أنواعا من الأزرار التي تنتزع من مختلف الملابس التي استنزفت،إلى جانب كريات من الخيط التقليدي الذي تحتفظ به الأم من عبر ما فضل عن نسج جلباب صوفي أوسلهام،أو خيط عصري انضم فيما بعد إلى المحتويات،بل إن قراءة الأم للتقلبات، قد جعلتها تضيف إلى هذه المحتويات قطع قماش يعود إليها المحتاجون عند الضرورة لإخفاء ثقب يختار مكانه بمكر !
لم يكن في يوميات أفراد الأسرة الواحدة والأهالي عموما، ميل نحو التماس الأفضل،بل كانت الغاية القصوى هي أن تظل تضاريس الجسد بعيدة عن العراء في وسط يعتبر الحياء والستر المتلازمين،هما رأسماله الأساسي.
وهكذا، كنا لا نبالي بمنظر الواحد منا ومن جميع الأعمار، وقد اجتمعت في سرواله رقع من عدة ألوان حتى اختفى لونه الأصلي، بل إن رتق الفتوق قد يجمع بين مزيج من خيط الأصالة والمعاصرة دون صراع !
لقد كان للنشاز صورة مغايرة يومئذ،فصاحب الأسمال الزاخرة بالرقع والألوان، شخص أصيل لا يخالف بيئته في شيء،أما النشاز فهو ذلك الشخص الذي يحمل لباسا خاليا من بصمات الإبرة وتزاحم الألوان !
وبسبب شذوذه عن القاعدة،فإن مثل هذا الشخص،كان يتحول-خلافا للمأثور-إلى مادة للتندر والسخرية.
ظلت الإبرة متاعا لا تتأثر قيمته مع مرور الأيام،بل إن الأهالي قد وسعوا استعمالاته،حيث أصبح وسيلة للتجميل عندما تشرع الفتاة في تهييء نفسها لعروض التأهل،حيث تلتمس خدمات الإبرة في إلحاق رسوم بوجهها وفي مناطق أخرى، عبرالجمع بين الوخز والسخام ليظهر الوشم الأزرق كقيمة مضافة في خدود الأمازيغية الموردة بالوراثة !
أما إذا أعفيت الإبرة من مهمتها الأصلية مؤقتا، فإنها لا بد أن تخلص الأقدام الخشنة من بقايا الأشواك التي التقطتها أثناء الاحتطاب ،أو العمل في الحقل خلال حصة خاصة ،ولتسهم كذلك في تفريغ الدمل المتقيحة أو فحصها.
لم نتمكن من صنع الإبرة،لكنناعملنا نحن-الأمازيغ-على توسيع مصطلحنا المشترك بإطلاقها على ما يتقاسم معها الوخز،وهكذا فإن حلة القنفذ عبارة عن مجموعة من الإبر التي حولها الأجداد إلى مثل يوردونه في صيغة لغز دال:(ييسي لحمل نتيصيناف، إتتر مانزي غاييني)!والمعنى :على ظهره حمل من الإبر لكنه يستجدي إبرة يخيط بها !
وإلى جانب القنفد،فإنهم يطلقون لفظا مشابها للإبرة على النبال التي تغطي ظهر حيوان الضربان،فيقولون:(ثيسغناس نواوروش).
والمعروف أن ،،ثيسغناس،،هي قضبان خشبية تنتزع من شجر،، العريش،،وتحد أطرافها لتجمع بين حصير الخيمة،غير أن إبر الضربان التي يتقي بها الأعداء،هي كذلك من متاع الزينة الذي يؤثث حق(بضم الحاء)المرأة،حيث تستعمله عند الاكتحال.
كانت أيام الرتق مريرة في الظاهر ،وتؤرخ لفترة الندرة القاسية،لكن واقع الحال يجعل منها مشهدا لا يخلو من حلاوة،خاصة حين صار الشباب من الجنسين يتهافتون على اقتناء سراويل باهضة من أجل ميزتها في كشف أعلى الركبة الذي كنا نتحاشاه بما حضر من رقع !
تلك أمة خلت بعوزها وعفتها، وهذه أجيال لا هم لها إلا الإثارة التي قوضتها أول جائحة ترخي بظلالها على كبرياء العالم،فهل نلتمس سبل الخلاص، أم ننتظر المصير الذي لقيه أسلاف لنا في النسب اختاروا الوعيد بدلا عن النعم المتزايدة في قوله عز وجل:
(لئن شكرتم لأزيدنكم،ولئن كفرتم ، إن عذابي لشديد). صدق الله العظيم.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock