افريقياالبطولة الاحترافية المغربالمولودية الوجدية

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM
  أ. د. عبد القــادر بطار *

يعود الحديث اليوم بقوة عن سؤال الدين، ودوره فيما يحدث ويجري على صعيد كوكب الأرض، وما تواجهه البشرية من محن وتحديات صحية، كما هو الشأن بالنسبة لمواجهة سريان فيروس كورونا العجيب، الذي حير العلماء، والخبراء، والعاكفين في المختبرات، وأرباب العقول، وأتباع الديانات.
وفي ظل هذا الوضع الرهيب، ماذا يقدم الدين، من أجل إسعاف بني الإنسان وحمايتهم من جميع الآفات والجائحات والأزمات.
لا شك أن البشرية منشغلة الآن أكثر من أي وقت مضى، بما أصاب بالإنسان، والكل يبحث عن فسحة أمل، وتفسير علمي مقبول لظاهرة فيروس كورونا الفتاك، ومحاولة البحث عن سبل القضاء عليه بالوسائل الطبية المتاحة.
والذي يعنينا في هذه المقالة العلمية، هو الوقوف على دور الإسلام فيما يقع للبشرية اليوم، في صراعها مع عالم الأوبئة، وكيف يمكن أن يعضد الدين العلم، للحفاظ على استمرار النوع الإنساني، ولاسيما علم الطب الذي تشتد الحاجة إليه أكثر، لمواجهة خطر الأوبئة التي تهدد وجود الإنسان، كفيروس كورونا، الذي أضحى سراً من الأسرار، وعبرةً من العِبَر.
وقبل الخوض في حيثيات هذه الجزئيات، خليق بنا أن نقف عند كلمة الدين، ماذا تعني عندنا نحن المسلمين.

الدين وضع إلهي:
الدين والديانة مصدر، فعله الماضي دَانَ. وفي لغتنا العربية الجميلة، يرد هذا الفعل للدلالة على عدة معان متقاربة، ترجع إلى أصل واحد، وهو الطاعة والانقياد والجزاء والحساب.
نقول: دَانَهُ دِيناً، أي ملكه وحكمه وساسه ودبره وقهره وحاسبه وقضى في شأنه، فهذا الاستعمال يدور على معنى الملك والتصرف.
وإذا قلنا: دَانَ لَهُ، كان المعنى أطاع وخضع وعبد، أما إذا قلنا: دَانَ بِالشَّيْءِ، فمعناه: اعتقده واتخذه دينا ومذهبا له. تقول: دان بالإسلام تعبد به، وتدين به كذلك، فهو ديِّنٌ مثل سَادَ فهو سيِّد.
تدور -إذن- مادة الدين في معاجمنا اللغوية على معنى لزوم الانقياد.
أما الدين في الاستعمال العرفي عند علماء الإسلام فهو:” وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال والمآل”. ويعيد الدكتور محمد عبد الله دراز (ت1958م) صياغة تعريف الدين بأنه:”وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات”
أما الشريف علي بن محمد الجرجاني (ت816هـ) فيركز في تعريفه على صلة الدين بالرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث يقبل أصحاب العقول النيرة بما جاء به صلى الله عليه وسلم، فيقول: “الدين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول صلى الله عليه سلم”.
وهذه التعريفات تتضمن جملة من المعاني السامية لابد منها لفهم حقيقة الدين عند علماء الإسلام، وهي:
دور العقل في إدراك فضائل الدين وقيمه السمحة.
مسؤولية الإنسان على أفعاله الاختيارية.
حرص الدين على إصلاح الفرد والمجتمع.
حاجة الإنسان إلى قيم الدين المطلقة.

الدين والعلم: تعاضد وانسجام:
علاقة الدين بالعلم ليست مسألة جديدة عندنا نحن المسلمين، فهي علاقة وثيقة قائمة قديمة قدم الدين نفسه، دعا إليها القرآن الكريم، وأكدتها السنة النبوية المطهرة، وأقبل عليها المسلمون عبر مختلف العصور، وذلك باعتبارين:
الأول: أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري، وهو من جملة الصناعات التي يكتسبها الإنسان كما يقول العلامة عبد الرحمن بن خلدون.
الثاني: أن من مقاصد الدين العناية بالإنسان وتكريمه وحماية القيم والعمران.
وقد ذهب حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (ت505هـ) إلى أن القرآن الكريم “هو البحر المحيط، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها”… لكن سر القرآن ولبابه الأصفى، في نظر الغزالي “هو دعوة العباد إلى الجبار الأعلى، رب الآخرة والأولى”.
كما تحدث ابن حزم الأندلسي (ت456هـ) عن كروية الأرض في القرن السادس الهجري ولم يعترض عليه أحد من المسلمين، بل نسب هذا القول إلى جميع علماء الإسلام، مستدلا على ذلك ببراهين من القرآن والسنة.
والقرآن الكريم كتاب هداية أولا وقبل كل شيء، يعتني بالجانب التعبدي، كما يعتني بجواهر الحقائق العلمية ومقاصدها في الخلق.
فقد اشتمل القرآن الكريم على أخلاقيات العلم، كما جعل العناية بالإنسان وسعادته أساس دعوته لقوله عز وجل﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70]
وفي غياب روح الدين وقيمه السمحة، وتراجع أخلاقيات البحث العلمي، وطغيان اللادينية، فقد يقود العلم البشرية إلى المجهول، ويصبح الإنسان نفسه كائنا مجهولا في المختبرات العلمية، تائها بين النظريات والتجارب،كما كتب الفيلسوف الفرنسي ألكسيس كاريل في كتابه الشهير”الإنسان ذلك المجهول”.
وعن علاقة العلم بالدين كتب أحد علماء المغرب المعاصرين أنه “لا توجد عقيدة من عقائد الدين تخالف براهين العقول، أو نظريات العلم الحديث المؤسس على المشاهدة والتجربة الصحيحة.
وإذا كانت القواطع العقلية تؤيد القواطع الدينية، أو تسالمها ولا تناهضها، لم يبق محل لأن يقال: إن الدين فوق العقل، أو العقل فوق الدين، ولا أن يقال: إن أحدهما يقدم على الآخر، إذ التقديم أو الفوقية معناها الترجيح عند التعارض، والفرض أنه لا تعارض ولا تضاد ولا تغالب، بل اتفاق وتعاضد.”
ومن أعظم المؤلفات التي تصدت بقوة لدعاوى المشككين والماديين المسلحين بأشباه القضايا، في هذا العصر ما أبدعه وأودعه شيخ الإسلام العلامة مصطفى صبري (ت1954م) في كتابه القيم:”موقف العقل والعلم العالم من رب العالمين وعباده المرسلين” فقد كشف -رحمه الله- عن زيف تلك الدعاوى، وزيغ أصحابها، والتي تأثر بها للأسف بعض شيوخ العلم التقليدين، الذين أسهموا في إماتة علوم الدين.
من خلال نظرنا إلى علاقة العلم بالدين، ولاسيما علم الطب، وفي ظل الظروف الوبائية الخطيرة التي يشهدها العالم في هذه الأثناء، فإنني أسجل هذه الإشارات والتنبيهات التي يتعاضد فيها العلم والدين.
أولا: الدين يسمو بالإنسان في جميع مراحل حياته، ويدعو إلى حمايته من جميع النواحي، الجسدية والنفسية والاجتماعية والبيئية.
ثانيا: الدين يضع القواعد الأخلاقية الأساسية التي يسير على هديها الطبيب والعالم.
يقول أستاذنا الفيلسوف والطبيب البروفيسور المهدي بنعبود -رحمه الله-: “ونذكر بالنسبة للطبيب ذلك الجانب الخلقي الذي يجب أن يتصف به العقل العلمي، من محبة الحقيقة، والنزاهة والإنصاف وإلغاء الشهوات، خصوصا في مضمار البحث العلمي النزيه، والخوف من الخطأ والعجز في التشخيص أولا، والعلاج ثانيا، ومعاملة المريض ثالثا”.
ثالثا: الدين في حد ذاته يساعد كثيراً على العلاج، فهو يفتح باب الأمل واسعا أمام البشرية جمعاء، ويحفز الأطباء والعلماء والخبراء إلى إيجاد الدواء لكل داء إلا الموت.
رابعا: ما يقع اليوم على صعيد كوكب الأرض من جراء وباء فيروس كورونا ليس انتقاما إلهيا كما يتصور البعض، فالله تعالى رحيم بعباده، وهو غني عن العالمين. ومن مقتضيات الرحمة العامة أنها تتناول المستحق وغير المستحق، كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي.
خامسا: الحق في الحياة مقصد شرعي شريف، يجب مراعاته في إسعاف المرضى أثناء معالجتهم والحفاظ على كرامتهم. ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة:32].
سادسا: من المسلم به أن الدين لا يحل محل الطب، بأن يترك المرء العلاج بدعوى التوكل، بل يواكبه ويعاضده، وذلك من أجل بعث الأمل في النفوس، وتقوية الجانب الروحي في الإنسان، عن طريق الإيمان.
سابعا: يتجه الطب إلى علاج الأبدان، ويتجه الدين إلى عمق الإنسان، وبينهما تكامل وانسجام. وهما يتعاضدان ولا يتعارضان.
ثامنا: العلم –كما قال علماؤنا- علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان، وكلاهما إذا تخلصت النية فيه كان من أعظم العبادات.
وهذه النظرة التعبدية إلى علم الطب، وجعله من جملة العبادات تبعا لقصد الطبيب وإيمانه بقيم الدين السمحة، أمر في غاية الأهمية، وهو من القواعد الأخلاقية الأساسية التي تأسست عليها الحضارة الإسلامية المشرقة التي نفعت البشرية أجل النفع.
*- أ.د. عبد القادر بِطار، أستاذ العقيدة والمنطق في جامعة محمد الأول بوجدة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock