أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

تعقيبا على السيد حسن أوريد : اللغة العربية ليست قاصرة

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

اسماعيل فيلالي

في اليوم العالمي للاحتفاء باللغة العربية الذي يصادف 18 من شهر دجنبر من كل سنة ، نجد الكثير من العلماء و الفقهاء والمثقفين الغيورين عليها ، يتسلحون بكل ما يملكون من زاد معرفي و ثقافي ليقارعوا به الذين يحاولون، عبثا، أن ينتقصوا من أهميتها و مكانتها بين لغات العالم ؛ و قد أثار انتباهي في سنة 2022 التي ودعناها ، و قبل الموعد السنوي للاحتفاء بلغتنا العربية الشامخة و الرائعة ، محاضرة السيد حسن أوريد التي ألقاها بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة بتاريخ 25 نوفمبر 2022 و التي تطرق فيها للكثير من القضايا المطروحة للنقاش في المجتمع المغربي ، ضمنها الثقافة و اللغة العربيتين، والهوية و الترجمة…. وفي معرض حديثه عن اللغة العربية يقول السيد أوريد : ” لم نستطع أن نذهب باللغة العربية ، بالرغم مما لها من إمكانيات ، إلى الجانب المرتبط بالعقل ” و أضاف إن ” اللغة العربية إلى الآن قاصرة ، رغم جهود بذلها جيل من الرواد لتتضمن العلوم الإنسانية والفلسفية والدقيقة .. ”
القول بان اللغة العربية لغة قاصرة وغير قادرة على استيعاب تطورات العصر و العلوم يبدو حكما مجانبا للصواب ، ذلك أنها كانت دائما قادرة على استيعاب كل العلوم الإنسانية والعلمية ، و لنا في التاريخ خير شاهد على ما نقول ، فقد كانت هي لغة الطب والفلك و لغة الرياضيات ( الجبر و الهندسة ) و لغة الفيزياء و الكيمياء و لغة علوم الحياة و الأرض و لغة الزراعة و الاقتصاد و لغة الفنون و الموسيقى ولغة الحكم ، أيضا ، لقرون طويلة في الأراضي التي حكمها المسلمون، في آسيا وشرق وشمال إفريقيا و الأندلس …. في الوقت الذي كانت أوروبا تعيش في ظلمات الجهل ، في القرون الوسطى إلى أن جاء عصر الأنوار الذي أطاح بالإقطاع و الفيودالية و سيطرة الكنيسة ، و استفاد مفكروها ، طبعا عن طريق الترجمة ، من الثقافة العربية و علومها و علمائها و اختراعاتهم التي لا تعدّ ولا تحصى و فلاسفتها و فقهائها و أدبائها و فنانيها و ومنهم على سبيل المثل لا الحصر نذكر : جابر بن حيان و الخوارزمي و الفارابي و ابن البيطار و الكندي و الإدريسي و ابن رشد و ابن خلدون و ابن باجة و ابن الهيثم و أبو بكر الرازي مخترع خيوط الجراحة و صنع المراهم و ابن سينا أول من كتب عن الطب في العالم كتابه المشهور” القانون في الطب ” الذي استخدم كمرجعٍ رئيسي في علم الطب على مدى 7 قرون ودرّس في الجامعات الأوروبية حتى أواخر القرن 19 و لقب بأمير الأطباء ، وغيرهم من العلماء الكبار في جميع العلوم الحقّة والإنسانية و الفنية …
نعم لقد كان لعلماء العرب و المسلمين فضل كبير لما تعرفه البشرية بصفة عامة فهم البذور التي أينعت معها كل علوم الحياة و لا تزال اختراعات هؤلاء العباقرة و كتبهم شاهدة على ذلك و لولاها لم تكن الحياة البشرية على هذا التقدم الكبير …. ( و للمزيد من الاطلاع على انجازات هؤلاء العلماء العرب والمسلمين يمكن العودة للكتب التي كتبوها أو الكتب التي كتبت عنهم بمختلف اللغات )

هؤلاء العلماء الكبار و العظماء في جميع العلوم باللغة العربية هم مفخرة للعرب و المسلمين في العالم بأسره و سيظلون كذلك ابد الآبدين ؛ هذا على مستوى البدايات الأولى التي عرفها العصر الذهبي للأمة العربية و الإسلامية ، أما في هذا العصر فهناك أمثلة كثيرة في الجامعات العربية التي استطاعت أن تقطع أشواطا كبرى في تعريب العلوم وصلت إلى التعليم العالي خاصة في سورية التي بدأت مسيرة تدريس الطب باللغة العربية في سنة 1919 مع افتِتاح معهد الطب العربي الذي شكل نواة جامعة دمشق ، وفي عام 1924 تم إصدار المجلة الطبية العربية ، فشرع علماؤها بتأليف الكتب الطبية و إيجاد المصطلحات الطبية و تطويرها باقتدار كبير وأصبح خريجو الطب في سورية لا يقلّون كفاءة ومهارة عن خريجي الكليات التي تعلّم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية في الدول العربية . و الطلبة الذين يتابعون الدراسة في أوروبا أو أمريكا من أجل التخصص فيها لا تقل قدرتهم إطلاقا عن قدرة الطلاب العرب الآخرين الذين درسوا الطب بلغة أجنبية في بلادهم ، رغم الصعوبات التي واجهوها في البداية ……
لقد مضى أزيد من قرن على التجربة السورية وأساتذتها يدرسون أحدث نظريات الطب ويعملون بأدق الأجهزة ، ويتحاورون في الأمراض بلغة عربية سهلة واضحة لا يتعثر في فهمها المستمع طالبا كان أم طبيبا في جميع أنحاء المعمور و حصلوا على شواهد تقديرية و علمية و أصبحوا يمارسون الطب في أوروبا و أمريكا و كندا بنجاح ، وأنجزوا أعمالا ضخمة من بينها معجمات طبية ؛ وأصدروا مجلات طبية بالعربية ، بالإضافة إلى الكتب الطبية ، و في هذا اعتزاز و فخر للغة العربية و للعرب وتأكيد للهوية العربية الإسلامية .. كما انه في مصر تم تدريس الطب بالعربية نحو ستين عاما من سنة 1827 حتى سنة 1887، وتحول تدريسها من بعد ذلك إلى اللغة الانجليزية ، ليس لأن اللغة العربية قاصرة ، و لكن تم ذلك تحت الضغط الاستعماري الذي كان يحارب الهوية العربية الإسلامية ، تماما كما وقع في لبنان حين بدأ تدريس الطب و الصيدلة بالعربية و لأسباب إيديولوجية أقصيت العربية و حلت محلها الانجليزية .. كما أن هناك تجارب أخرى في السودان و ليبيا حيث بدأ تدريس الطب باللغة العربية ، وقد اتخذت كلية طب جامعة الأزهر قرارا بتدريس الطب الشرعي والصحة النفسية بالعربية … كما أن هناك نقاش واسع في المغرب حول إمكانية تدريس الطب و العلوم الرياضية و الفيزيائية و الكيميائية باللغة العربية إذا توفرت الإرادة والعزيمة لدى القائمين على الشأن التعليمي ، بالرغم من فشل التعريب الذي تتحمل الدولة كامل المسؤولية في تعثره ….
إن تدريس العلوم باللغة العربية يمكن تطبيقه بإنشاء ” أكاديمية اللغة العربية ” ، تضم علماء في جميع التخصصات يقومون بوضع استراتيجية عامة و مفصلة لعملية التعريب ، و ذلك بتوفير الكتب والمراجع العربية للمقررات الدراسية عن طريق تشجيع الترجمة وتفعيل دورها و وضع مخطط استراتيجي دقيق لاختيارات المصطلحات العلمية المترجمة إلى اللغة العربية ، لأنها قادرة على استيعاب كل العلوم ، عكس ما يقول السيد أوريد : ” بان أخطاء الترجمة لها تبعات عدّة ، من بينها عدم وصول اللغة المترجم إليها، وهي اللغة العربية في هذه الحالة، إلى الكونية ، مبرزاً أن هذه العوائق هي ما يحول دون قيام اللغة العربية بأدوارها ..” إن العائق الحقيقي الذي يقف في سبيل اللغة العربية ليست الترجمة ، إنما هو ما يفتعله من لا يؤمنون بالتعريب لسبب أو لآخر و الذين استهوتهم اللغات الأجنبية فأرادوا تهميشها و إقصاءها حيث ذهب بعضهم إلى الحديث عن استبدالها بالعامية حتى في التدريس و تلك قصة أخرى …؟
كما أن الترجمة لم تكن عائقا في وجه الكثير من الشعوب التي اعتمدتها ، كما في اليابان ( وهي لغة محلية و ليست عالمية ) حيث يتم ترجمة الأبحاث العلمية إلى اللغة اليابانية بعد فترة وجيزة من صدورها ونشرها وكذا في الصين وألمانيا واليونان و اسبانيا و ايطاليا وكوريا الجنوبية و الشمالية وغيرها من الدول التي تدرس العلوم بلغاتها المحلية ؛ ولم تتأخر هذه الدول عن التقدم العلمي الذي يجري في العالم ، بل أصبحت رائدة ، خاصة وأن أسس وقواعد العلوم الأساسية والرياضيات ثابتة لا تتغير…. و يمكننا أن نستحضر ما كان يقوم به الخليفة العباسي المأمون في العصر العباسي حيث كان يشجع على الترجمة و كان يمنح مترجم الكتاب وزنه ذهبا مكافأة له على عمله ، وبذلك ازدهرت العلوم في عهده … لذلك فترجمة العلوم كلها إلى اللغة العربية و التدريس بها ممكن لأنها لغة حية غنية بالمفردات والاشتقاقات مما يمكنها من استيعاب جميع المصطلحات المعرّبة من لغات أخرى، كما أن ترجمة الكتب والأبحاث العلمية سيؤدي إلى التواصل المستمر مع كل المستجدات العلمية ، كما سيساهم في تطويرها و إجادتها و استيعابها لكل العلوم الحية …
إن اللغة العربية تعد من أبرز و أقدم اللغات ، على الإطلاق وأكثرها جزالة في الألفاظ وقدرة على استيعاب المعاني الجلية إذ تدعى لغة الضاد ، و هذا الحرف لا يوجد إلا في اللغة العربية من جهة ، و من جهة أخرى ان قوة اللغة العربية تكمن في أنها لغة القرآن الكريم ، وهذا بدوره أعظم شرف وأكبر أهمية للغة العربية ؛ لأن الله جلّ جلاله اختارها من بين لُغات الأرض ليكون بها كلامه الخالد الذي أعجز بهِ من كان ومن سيأتي إلى قيام الساعة ، ولا يكون هذا الإعجاز إلاّ لكون هذه اللغة تحتمل ثقل الكلام الإلهي وقوة الخطاب الرباني . ” إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ” صدق الله العظيم . و في تفسير هذه الآية يقول ابن كثير : “… ذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات و أبينها و أوسعها ، و أكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ، فلهذا أنزل الله أشرف الكتب ، بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة أشرف الملائكة ، و كان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، و في أشرف شهور السنة ، فكمل له الشرف من كل الوجوه ” . لذلك فاللغة العربية تعتبر من أهم مكونات المجتمع العربي و الإسلامي ، وقوّة وبلاغة اللغة يعبر بشكل كبير عن تماسك هذا المجتمع الناطق بها ، واهتمامه بها وبقواعدها ، وعلومها ، وآدابها ، وضوابطها ، وهذا يعد أجمل أشكال الرقي الحضاري في التّفكير والسلوك لدى المجتمعات العربية و الإسلامية التي حافظت على لغتها، و قد حظيت اللغة العربية بما لم تحظ بهِ أية لغة من الاهتمام والعناية ، لأنها لغة التحدي و الشموخ بحيث عاشت تهميشا كبيرا طالها لمدة تناهز ستة قرون ( 600 سنة ) ، و هي مدة حكم العثمانيين ، و لأنها ممتدة في الزمن و محفوظة إلى الأبد فقد نهضت من رمادها قوية ، في عصر النهضة العربية ، بعد انهيار العهد العثماني وأبت الانقراض الذي طال العديد من اللغات و اللهجات القومية للكثير من الشعوب …
لقد أصبحت اللغة العربية اليوم من اللغات الحية الواسعة الانتشار و الأكثر استخداما في العالم إذ يستعملها أكثر من 450 مليون نسمة من سكان الكرة الأرضية ، و يتعبّد بها أكثر من مليار و نصف مليون مسلم ، لذلك اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة ضمن اللغات الرسمية و جعلتها سادس لغة للعمل داخل المنظمة الأممية ؛ ومن تم تقرر الاحتفال باللغة العربية في 18 دجنبر من كل سنة و هو اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية قرارها رقم 3190 عام 1973 بناء على اقتراح قدمه المغرب و السعودية خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة ” اليونسكو ” التي أصبحت تواظب ، منذ 2012 ، على تخليد اليوم العالمي للغة العربية كل عام لأنها ساهمت بشكل كبير في إثراء التنوع الثقافي واللغوي للإنسانية ، فضلا عن الاحتفاء بمساهمتها في إنتاج وتجديد المعارف و يكفيها هذا شرفا …. و آخر ما حققته اللغة العربية هو اعتمادها من لدن الاتحاد الدولي لكرة القدم ( فيفا ) كلغة رسمية ، لتكون بذلك خامس لغات الاتحاد الدولي لكرة القدم بعد الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية …
ستظل اللغة العربية أعظم لغة عرفتها البشرية بقدرتها على البقاء والتطور والتواصل كلغة للمنتظم الدولي في مختلف القضايا والمجالات و كذلك لطاقتها التعبيرية الهائلة وقدرتها على تسمية التفاصيل الصغيرة في العلم و الفن و الأدب ؛ و الدليل على ذلك أنها حققت توسعا مطردا منذ الاعتراف بها كلغة رسمية من قبل الأمم المتحدة سنة 1973 في التنمية العلمية والمعرفية وأثرت على كثير من اللغات الأخرى خاصة في العالم الإسلامي ..
كما شاع الحديث بالعربية في المهجر في أوروبا و أمريكا وأمريكا اللاتينية و آسيا و إفريقيا …. دون أن ننسى أنها وصلت للعالمية و الكونية بعد أن حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب سنة 1988 …..
و حتى لا نطيل ، يمكن أن نقول للذين ينعتون اللغة العربية بالقصور بان العربية كانت و لا تزال شامخة و الذي أصبح قاصرا هم أهلها و حكامها ومفكروها في العصر الحديث و المعاصر الذين استغربوا في ثقافتهم و لم يواصلوا تطوير اللغة و مواكبتها للعصر ، و اتبعوا ما يتلى عليهم من اللغات الأجنبية …

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock