أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

“دوسيكونزاك” في ضيافة سلطان الجبل

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

رمضان مصباح الإدريسي

تقديم:
على نهج “شارل دوفوكو” الرحالة والجاسوس الفرنسي ،مضى “دوسيكونزاك” في كتابه “في قلب الأطلس”..ركنان عتيدان في تاريخ الجاسوسية الفرنسية ،التي قررت أن تعرف كل تفاصيل المغرب:ساكنة،جبالا،سهولا،اقتصادا،عتادا..قبل المغامرة باقتحام خرائطه؛تفاديا لتكرار أخطائها بالجزائر.
فعلا نحن معه ،ليس في قلب الأطالس فقط ،بل في قلب كل التفاصيل القبلية ،وخلجات وجدان شيوخها وقيادها وزواياها .
وسأعمد ،عبر وقفات معه ،هنا وهناك ،إلى تقريب موسوعته المخابراتية –لكن المفيدة أيضا – من القارئ،وخصوصا المغربي والمغاربي.
عسانا نعي أن هذا الوطن غال جدا ونفيس ؛هكذا كان وهكذا سيبقى إلى الأبد.
طلبه المستعمر لغلائه فتمكن منه ؛فكيف لا نطلبه نحن لنفس السبب ،فنخلص له الوطنية والعمل حد التصوف.
فلا نامت أعين كل أعداء الوطن .

اغبالة،الغموض والخطر:
لدى خروجنا من هذا المحيط الجبلي المتداخل ،حيث سرنا كعميان ،لا نبصر أي شيء عدا ظهور التلال حيث ينتشر شجر العرعر والبلوط، الأجراف التي تحيط بالنجود،والقمم البيضاء لشاهق الجبال ؛ اكتشفنا على حين غرة أفقا منبسطا ،هو الأول منذ مغادرتنا مراكش. وللدقة فهو بعرض لا يتجاوز خمسة كيلومترات (شمال جنوب) في حين يُغلقه شرقا حاجز من التلال ،تفصلنا عنه نصف مرحلة من المشي.
تحده شمالا سلسلة الأطلس المتوسط ،وقممها العليا لاتصل إلى 2500م.
تنزل بها قبائل آيت سري،آيت اهند،آيت اشكارن ،وآيت اسحق؛وتلامس أراضيها سهل تادلة.
تحدها سلسلة الأطلس الكبير جهة الجنوب ، وتبدو بيضاء كلية ،معقدة ،غامضة ،ويخترقها – على مستوى علونا – مضيق يصل بين “أفردة” و”تودرا”.
بعد ساعتين من المشي صُعَّدا ،عبر مجرى نهر كبير ،وصلنا إلى قرية “ارقدم” العالقة فوق تلة صخرية ؛وحواليها حقول مزروعة جيدا، منقاة و مسيجة بالأغصان.
نحن نعبر الآن أراضي الشريف المشهور مولاي علي أمهاوش،الرجل الأشد نفوذا وثراء بالأطلس المتوسط . يتواجد سكنه القار بزاوية “اغبالة”؛قرية صغيرة توجد في عمق منبسَط دائري أحمر تحيط به جبال غابوية.
اغبالة قرية موقرة وملجأ لا يمكن اختراقه ؛لايحميها أي حصن ،لكن لا أحد أجنبيا يمكنه الدخول إليها،لشهرتها المأساوية : يذبح فيها اليهود ،كما يتم حرق مبعوثي المخزن.
في هذا المكان تم في سنة 1894 قتل مولاي سرور غدرا؛وهو عم السلطان مولاي عبد العزيز ؛دون مراعاة توقيره لأمرين:
كونه من جهة مبعوثا للسلطان،ومن جهة أخرى ضيفا للشريف.
توقفنا على بعد ثلاث كيلومترات من الزاوية،لتوجيه “الزطاط” أمرار بن ناصر ،طالبين ضيافة الشريف أمهاوش.
أقلقه كثيرا الإخبار بكون شرفاء أجانب ببابه ،فصرخ: أين يمكنني استضافتهم؟ لكن ما أن علم بأن لنا خياما وخدما حتى اطمأن ورحب بنا .
خلال هذا التفاوض السريع أمطرت السماء ؛دخلنا أغبالة مخترقين حشدا من الرجال على جانبي الطريق ،يقفون صامتين وغامضين.
تقدم منا سيدي علي أمهاوش ،مقبلا يد مولاي الحسن ،ثم حدد لنا موقع المخيم.
أخبرنا بكونه ،ومنذ يومين،يتلقى البريد تلو البريد ،لزيارة أخيه المريض ؛لكن قوة خفية حالت دون استجابته…لكن حالما تم إخباره باقترابنا توصل برسالة تخبره بشفاء أخيه المفاجئ.
هذان الحدثان المتزامنان ،ليسا بالتأكيد صدفة فقط ؛فسيدي علي يرى فيهما تمظهرا خارقا لفضائل ضيفه(مولاي الحسن).
ها نحن الآن نزلاء الزاوية الغامضة،في قلب الأطلس.
إن اغبالة،كما سائر المدن المغربية،تفتقر إلى من يراها عن قرب .
من بعيد تُرى مدينة منغلقة ضمن محيط جبلي وغابوي مظلم. مدينة موقرة ومتمنعة ،جعلت منها أسطورتها العجيبة والمأساوية مكانا مهما ومثيرا للفضول؛وما هي ،في الواقع،سوى تجمع من المنازل المكعبة والمتراصة ،مبنية بالطوب الأحمر ،ومغطاة بسقوف مسطحة؛ ولاشيء في أخلاق ساكنتها ،ومزاجهم ،يبرر شهرتها المرعبة.
لكن إذا كانت أغبالة لم تُشبع فضولنا ،فان العَوَض من شريفها مولاي علي أمهاوش؛انه أحد أكبر الشيوخ الروحيين بالمغرب ؛منذ وفاة سيدي العربي الدرقاوي ،أكبر شخصية دينية مؤثرة في الجنوب الشرقي.
يبلغ من العمر الخامسة والأربعين تقريبا،ضخم ،شديد بياض البشرة ،وأهلب الشعر .
يحتفظ بكامل لحيته ،ويجمع جدائل شعره الطويلة فوق رأسه ،يغطيها بمنديل بسيط من القطن الأبيض…جهوري الصوت ،كلماته حادة ،وحركاته سريعة.
تغطي لباقته على مزاجه المتوثب وعناد أفكاره؛لكننا ،ومن خلال كلامه ، نستشف نزعته الحربية ،السلطوية ،المهيأة للحكم والقتال.
حدثنا سيدي علي بن المكي أمهاوش ،بنفسه، عن شجرة نسبه الادريسية وتاريخها،وسبب نزاعه مع السلطان.
أول أسلافه الذي حمل لقب أمهاوش هو سيدي علي أولحسين. خلف هذا الجد عشرة أبناء ،وسلم خلافته على الزاوية لابنه البكر ،سيدي محمد وعلي،المشتهر بسيدي محمد اوناصر؛الذي خلف بدوره ستة عشر ابنا ،ومن حفدته سيدي المكي والد سيدي علي أمهاوش.
تلقى سيدي علي تعليما دينيا ولغويا متينا ؛وقضى شبابه متنقلا بين اغبالة،فاس ،مكناس ،ومراكش.”آيت ايشكيرن” هي قبيلته.
يلقب ب”سلطان الجبل “،وأول من لقبه معلمه سيدي الهواري ،مؤسس الزاوية الدرقاوية ب”فركلة”.
يقيم سيدي علي أحيانا بأغبالة،لدى آيت عبدي ،وطورا ب”تيحوناي” لدى آيت “ويدير”؛كما يقيم ب “التلاثا اواعراب” ،قرب زاوية سيدي يحي ويوسف ،بمنابع وادي العبيد.
له زوجات وأبناء وخدم في كل اقاماته؛وتغلبُ على معاشه البساطة والتقشف،وهما الطابع المميز لدرقاوة ،وهو حاليا رئيسهم الأكثر نفوذا.
إن منزله الذي اختار أن يستقبلنا فيه ،عبارة عن بناية واسعة من الطوب وأخشاب البلوط .تُذكِّر غرفُه الخالية من الأثاث بالخُلْوات الصوفية،التي يرد ذكرها لدى كتاب السير المسلمين.
متهم بالغدر بالأمير:
انظروا إلى بؤسي – يقول سيدي علي – وقولوا لي :هل هذا هو قصر طموح (للمُلك) دعِي؟
ثم طفق يحدثنا عن مناوشاته مع السلطان مولاي الحسن؛مركزا على مقتل الأمير مولاي سرور ،الذي يتهم به؛باسطا الحكاية الآتية:
في السنة التي واجه فيها السلطان مولاي الحسن، مع قادته ،انتفاضة قبيلة غياثة (1892) اختارت قبيلة آيت عيسى،فخذة آيت سخمان ،لقيادتها “أدرتاتاي” الرجل الشجاع والعادل.
عمد المخزن من جهته إلى فرض صنيعته “سيد أوباسو” على القبيلة.
مولاي سرور الذي كان في حملة ضد السراغنة ،تلقى الأمر بضرورة دعم مرشح المحزن ؛وان اقتضى الحال تنصيبه بالقوة مسخِّرا الحَرْكة.
قدم عم السلطان ،عبر أراضي زيان،على رأس مائتي فارس فقط؛وبدون أي حذر واحتياط دلف إلى فج “ثِغَنِمينْ” الذي يصل عالية ملوية بأغبالة.
ترصد له آيت عبدي ،متخفين في الفج الغابوي. في اللحظة المناسبة داهموا بغتة فرسانه ،صارخين ومطلقين أعيرة نارية.
التحم الفريقان وتدافعا متقاتلين ؛في هذا التدافع سقط مولاي سرور وداسته الخيول.
ما كان من أحد الجبليين إلا أن هوى عليه وجز رقبته،دون أن يعرف من يكون الرجل.
حمَّل السلطانُ الشريفَ أمهاوش مسؤولية هذا الكمين .
اغبالة تحترق:
في السنة الموالية جهز حرْكة قوية لإخضاع آيت عبدي وأسْرِ الشريف.
أصاب الهلع سكان الجبال فتفرقوا عن الشريف ،ولم يصمد بجانبه غير القائد محمد أولباز بمعية مائة وخمسين من الفرسان.
أضرم مولاي علي النار في منازل أغبالة ثم ارتقى الجبال ؛وشرع في مناوشة قوات المخزن ،على مدى شهر كامل.
ما أن حل الحصاد ،بعد أن اكتست السهول شُقرةً ؛وتوزعت النساءَ والأطفال وقطعان الماشية وِهادُ الجبال ،حتى شرع فرسان مولاي علي في التناقص يوما بعد يوم .
أمام هذا الوضع ،مشفقا أيضا على أهله ،لم يجد الشريف بدا من إرسال القائد اولباز معلنا الخضوع للمخزن ،وبين يديه أربعة ثيران ذبحها بباب خيمة قائد الحركة.
هكذا انتهت الحملة ،وغادر رجالها على عجل الجبال .

عفوٌ وحذر:

بعث السلطان مولاي الحسن إلى الشريف من يخبره بعفوه عنه ،وسروره برؤيته في بلاطه.
ورغم هذا اختار مولاي علي أمهاوش الحذر فلم يغادر الجبل قط.
ظلت عينه يقظة ،خصوصا وقد تناهى إلى علمه تربص قائد زيان به ،وتحديد ثمن لرأسه.
آخر من حاول الحصول على المكافأة “مخازني” ،أطلق على الشريف رصاصتين ب”فركلا” أخطأتهاه.
ما كان من درقاوة إلا أن انقضوا عليه وأحرقوه حيا.
هذه هي الحكاية التي رواها لنا مولاي علي،وبجانبه القائد أولباز يؤكد كلامه،متحمسا، بالأمازيغية لجهله العربية.

“سيكونزاك” الجاسوس:

من المؤكد جدا أننا(فرنسا) سنجد في مواجهتنا هذا الشريف المتعصب،على رأس فرسان الأطلس.
لقد ذكرت أنه درقاوي ،وإحدى بناته تزوجت “سيد أبَّا” ،ابن سيدي الهواري،وحفيد مؤسس الطريقة سيدي العربي.
تفصيل مهم: سيدي علي ، الشريف المتعصب، تلميذ مخلص لشريف “تامصلوحث”،الدرقاوي بدوره،كبير آيت عطا؛وهو محمي من طرف الانجليز ،وصديق شديد الإخلاص لفرنسا ،وقد كلفني بتبليغها التماس الحماية.
غادرنا اغبالة على الساعة العاشرة والنصف ،وبرفقتنا مولاي علي أمهاوش،وقد لازمنا بحمايته عبر أراضيه،إلى أن تجاوزنا قبيلة آيت عبدي الخطيرة.

معتمدا:
Au coeur de l’Atlas, mission
au Maroc, 1904-1905 /
de Segonzac .

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock