أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

عندما كرست سلطات الاحتلال التباين الطبقي بمدينة جرادة ….

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

محمد شحلال


عندما شرعت سلطات الاحتلال في استغلال مناجم الفحم الحجري ببلدة،،جرادة،،كان عليها أن تهيء مختلف البنى الضرورية،وعلى رأسها السكنيات .
وحرصا من هذه السلطات على تكريس التباين الطبقي،فقد خصصت للأطر،،الشقراء،،من الأروبيين،اقامات فاخرة،هي عبارة عن فيلات فسيحة ،تتوفر على كل مقومات الحياة الباذخة،بينما عمدت لعزل العمال الكادحين في شبه زنزانات من الإسمنت الخالي من كل المكملات ،التي من شأنها اتقاء قساوة فصل البرد أو قيظ الصيف الخانق.
كانت مساكن العمال البئيسة تحتل نصيب الأسد بجرادة،وأقل من ذلك في،،حاسي بلال،،ليكون هؤلاء العمال قريبين من المناجم الموزعة بين المنطقتين.
لم يفت السلطات الاستعمارية أن تخصص قسما من سكنيات العمال،لطبقة غير المتزوجين منهم، أو الذين تظل زوجاتهم تحت وصاية الأسرة لابتزاز الأبناء على حساب الزوجة المسكينة ورغباتها.
كانت السكنيات المخصصة لهذه الفئة من العمال،تعرف ،،ديور الزوفريا،،وهي عبارة عن حي شبه خاص،بحيث لا يتحرك فيه إلا هؤلاء البؤساء الذين يستهلكون ،،السيليكوز،،في أعماق الأرض،وهواجس تداعيات البعد عن زوجات، يغنيها الوسواس بسيل من الشكوك والمخاوف،بينما يبحث غير المتزوجين منهم عن إشباع نزواتهم في حي،،الطوبية،،حيث كانت بائعات الهوى يعرضن أجسادهن المنهوكة خاصة يوم استلام ،،الزوفريا،،لأجرتهم.
كان في حي،،الزوفريا،،هذا، مسكن من غرفتين، يحمل رقم 1023،وصار هذا الرقم متوارثا منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي.
لقد شاءت الصدف أن يقيم بهذ السكن أوائل الرجال من أقاربي الذين تم قبولهم للعمل في المنجم،أو ما عرف ب،،لامبوش،،Embauche،وهو عملية انتقاء دقيقة يخضع لها الراغبون في معانقة الموت مقابل الرغيف الأسود.
كان أقاربي الذين يعملون بالمنجم سواء من المتزوجين أو العزاب يتكدسون في ،،إقامة1023،،ثم يشرعون في التناوب على المغادرة عندما يسمح للزوجات الرهائن/ بالالتحاق بهم.
كان ثلاثة من إخواني ضمن قائمة من عمروا 1023 كما أصبحت تعرف،وهكذا تحول هذا السكن إلى شبه ملكية لكل الأقارب الذين التحقوا بالمنجم لعقود طويلة،بل إن الضيوف الوافدين من البلدة كانوا يتوجهون مباشرة إلى هذه الإقامة،،العائلية،وينتشون ب،،كاميلة،،الزوفريا اللذيذة،كما كانوا كذلك يستفيدون من حصص اغتسال أسطورية، حينما يصطحبهم المضيفون إلى حمام الشركة ،حيث يشبعون نهمهم في الماء الساخن الذي ينسيهم في الاستحمام الدوري وسط نبات الدفلى بجرعات من ماء قد لا يصيب كل مناطق الجسم !
وبقدر ما وفر 1023 إقامة سلسة للوافدين من الأقارب،فقد كان يشكل كذلك متنفسا ،حيث كان لكل واحد منهم دف يعيد إليه طنينه ليلة ،،الكانزينة،،حيث ينخرطون في رقصة أحيدوس بعد التهام محتوى،،الكاميلة،،خاصة إذ تعزز الحضور بضيوف من،،ريحة لبلاد،، اذ يجمعون بين الإلمام بأخبار الأهل و،،الغيوان،،الذي يخففون به من محاربة الموت على مدار الأيام.
كانت زوجات هؤلاء العمال يعشن حياة مليئة بالانكسارات والمعاناة النفسية الصامتة،ذلك أن الأزواج كانوا يتركونهن بمجرد انقضاء،،كونجي الزفاف،،ليتحولن إلى رهائن،بل إلى خادمات لأهل العريس،حيث يوكل إليهن القيام بكل الأعمال،ولا يغادرن هذا الوضع إلا بعد سنوات من المفاوضات العسيرة والخصومات أحيانا.
أصبح ،،حايك مصطفى والعشعاشي،،-لاحقا-فأل خير على هؤلاء الزوجات أسيرات الابتزاز،ذلك أن الزوج يعلن بشراء الحايك عن خلاص الزوجة ،وتطليقها لوضع غير مأسوف عليه، إيذانا بتحضير لوازم السفر لتركب الزوجة،،الكار الأسطوري،، ببلدتنا لأول مرة،حيث تتسلح بزجاجة عطر من إهداء الزوج، وخليط من النباتات المحلية، لتفادي الدوار والغثيان الذي يستدره ركوب ،،الآلة،،الذي يختلف عن ظهور الدواب ومتعتها التي تعودتها هؤلاء البئيسات ،اللواتي يتهيأن للتمدن، وما يتطلبه من تأهيل، قبل حصول الاندماج في الحي المغربي الذي يجتمع فيه كل أطياف المغرب.
كانت أسعد لحظاتي حينما يدعوني أخي لقضاء الليلة في أجواء 1023،حيث استمتع بسماع الأخبار والمستملحات قبل انطلاق هيستيريا،،بوشطبة،،وهي رقصة مشهورة ببلدتنا، ويحرص عليها ،،الزوفريا،،هنا،حيث يبدعون الأشعار التي يدخرونها لأيام،،الكونجي،،لتسويقها في الأفراح !
قبل سنوات قليلة،وبعد غياب طويل،قررت تفقد المكان : 1023،فحضرني بيت الملك الضليل حين قال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوا بين الدخول فحومل
كان امرؤ القيس قد جرد من نفسه شخصا يبثه شكواه،أما أنا، فلا أملك ملكات بكاء الأطلال،وإنما تأملت المكان الذي انقلب رأسا على عقب،وتجرعت غصة ذكريات قديمة، وانصرفت لتعترضني الأطلال والرسوم حيثما حللت !
لقد اكتست جرادة حلة جديدة بعد إغلاق المناجم،لكن نكهة الماضي لن تصنعها المباني الحديثة !…

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock