أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

يا لها من نعمة، التآزر العائلي والتماسك الاجتماعي، ويا لها من فضيلة منقذة للمجتمعات النامية المحرومة من رعاية حكامها: أخي وصديقي الغالي

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

الجيلالي شبيه
لا أعرف في الواقع هل أتكلم عن أخ أم عن صديق، ولكن في حقيقة الأمر كلاهما واحد: أخ وصديق في نفس الوقت⸳ وكما قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي (767-820) في نفس الاتجاه تقريبا: “أنت من الإخوان على كثرتهم أهل ثقات، توافقني في كل أمر أباشره، رغم هفواتي، وتغض الطرف عن كل عثراتي”· “مهما كان عمر الأخ الكبير، فهو الأب الثاني لأخته”، وجودك في حياتي، رفيق طفولتي، وصخرة أستند عليها طوال حياتي، وصديق وفي حتي مماتي، فياربي لا تريني فيك شيئا يخط الدمع في وجناتي·
تربطني بهذا الأخ، بهذا الصديق الغالي، علاقة عائلية متينة، جد قوية، منذ الصبا، منذ نعومة أظافري، إلى اﻵن· وأنا اﻵن امرأة يانعة، قوية، نحتتها عواصف الظروف، وصقلتها قساوة التجارب، أحبه في الله بقدر ما أحب نفسي⸳ لم يكد يدرك ستة سنوات يوم ولدت، واقترح ساعتها بجرأة وسط الحاضرين إسم ليلى الذي أحمل اﻵن، وهو يصرخ بكاء عندما اعتزمت أمي إسما آخر بديلا⸳ ومنذ ذلك الحين وهو تربطه بي علاقة أخوية وطيدة· وكنت لم أعرف شيئا عن تاريخ هذه التسمية ولا عن هذه الحكاية اللطيفة العاطفية إلا بعد مرور سنوات عديدة⸳ وكما قال الشاعر طرفة بن العبد (543-569)، “ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا”، وتزداد فرحتك، كلما كانت اللحظة خيرا، وتغمرك السعادة، بوجود أخ حميم لك يحضنك كهذا·
كان عادل دائما يقف إلى جانبي، يدافع عني ويحميني من كل شر أو أذى مسني، أو سوء أحاط بي أو لف حولي⸳ ولم أذكر، ولو يوما من الأيام، أنه ولو بنظرة أو بكلمة أو بموقف، قد خدش عواطفي أو جرح مشاعري، أبدا، أبدا⸳ إني أكن له حبا أخويا لا يقدر بثمن⸳ إن الالتحام العائلي في مثل هذه المجتمعات العربية الإسلامية، لقلة أو انعدام الإرادة والمسؤولية السياسية، عامل أساسي من عوامل السكينة في مثل هذه الدول اللامبالية، ووسط هذه الشعوب اللا واعية· تعودت هذه الشعوب، تعودت هذه العائلات والأسر، تعودت هذه الأفراد، الاعتماد على النفس منذ الصبا، بل منذ نشوئها، لأن المؤسسات الحكومية، في مثل هذه البلدان، عاجزة عن توفير الأمن العام البيئي والسكني والصحي والغذائي لشعوبها· ولأن، كذلك، هذه المجالات الحكومية الحالية جرداء مقفرة من الضروريات للأغلبية الساحقة· وكما قال علي بن أبي طالب (599-661): “مساكين أهل الفقر، حتى قبورهم···عليها تراب الذل بين المقابر”·
كان عادل عادلا، في كل مواقفه، هادئا رزينا ومتزنا، يفصل بالحق في كل خلاف، أو شجار أو خصام، سواء في المنزل بين أفراد الأسرة أو خارج المنزل بين أصدقائه⸳ كان كذلك هذا الطفل الوسيم مقتدرا حكيما محبوبا بين جميع أصدقائه، وبين كل أفراد العائلة سواء في أسفي أوفي الصويرة، في مراكش أو في مناطق أخرى من المغرب⸳ إن من أفضل صفات القاضي العادل، كما يقال في أدبيات القانون القضائي، عرفيا كان أم دارسا، أن يتحلى بالمبادئ الأخلاقية، وبسعة الصدر وانشراحه، وبالإحاطة بكافة ملابسات القضية موضوع النزاع، وبالسيرة الحميدة والهدوء والرزانة· يقول عمر بن الخطاب (584-644)، عندما استوفى إلى أبى موسى الأشعري، شروط القضاء : “···ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل···”·
كان لعادل دورا عائليا أساسيا داخل الأسرة باستمرار في غياب دور الوالدين، الأم ابتليت باكرا بمرض خطير مزمن، عانت وقاست وتألمت، والأب أرهقه عمله البنكي العقوق الذي أفنى فيه طول عمره، شبابه وقوته وكهولته، بدون أدنى اعتراف لا بالضغط والمجهود اليومي، و لا بالنزاهة والتفاني في العمل⸳ كم هو مؤسف العمل المخلص، الذي يستنفذ سدى في مثل هذه الدول المتخلفة العقوقة الناكرة، في كل قطاعاتها ومؤسساتها، للجهد والنزاهة والمسؤولية⸳
كان عادل يحاول باستمرار إيجاد حلول لمشاكلنا اليومية ومعاناتنا، كيفما كان نوع هذه المشاكل، وهذه المعاناة، وكأنه تلك الإسفنجة الضخمة التي تمتص كل مشاكلنا، كل معاناتنا، دون أن يفوه، ولو مرة، بأدنى آهة أو كلمة ولو خطأ يمكنها أن تؤذينا· ولم أتذكر قط أنه، يوما من الأيام، اشتكى لنا من ثقل هذه المسؤولية، وقد تحملها بشكل طبيعي وبصدر رحب منذ صغر سنه إلى اليوم· ولم أتذكر يوما كذلك أن عادل تظلم لنا مما واجهه، هو شخصيا، أو عاناه من مشاكل، وكم عانى من مشاكل، وكم كانت مريرة تلك المعاناة، لا بالنسبة للمشاكل العائلية، ولا المشاكل المدرسية، ولا بالنسبة لمشاكل البحث عن العمل وكثرة البطالة المزمنة⸳ وأنا اﻵن، أعرفها جيدا، تلك المشاكل وتلك العراقيل والمعاناة، لكن، لسوء الحظ، كنت، وأنا صبية، غير قادرة عن مواجهتها في أغلبية الأحيان، وخاصة تلك التي كانت خارج طاقتي، وكم بذلت كذلك بدوري، وأنا طفلة، من جهد ومجهود للتغلب على تلك المشاكل وتلك العراقيل⸳ إن كل فرد من أفراد العائلات والأسر الفقيرة، أو البسيطة والمتواضعة، في كل المجتمعات النامية أو المتخلفة، لا يشغل منصبا من المناصب العليا في هذه الدول الشقية إلا بعد أن تشفي غليلها من المناصب السامية فئات الإرث والريع، الفئات الغنية المحظوظة، فئات الأثرياء⸳ لكن وكما قيل يوما لأحد الفقهاء: “لماذا جعل باب الجهاد في آخر كتب الفقه؟ أجاب الفقيه بذكاء، لئلا يتكلم في الجهاد من لا يحسن الطهارة”·
اندلع ذات يوم حريق في المطبخ، عندما كنا نسكن في مدينة آسفي، بسبب عطب في الفرن، وتدخل عادل في الحين، كعادته في مثل هذه المواقف، والأوقات الصعبة، لإنقاذنا من الكارثة، فلف لحظتها حول يده قطعة من ثوب سميك كانت هناك، بلل القماش بالماء كثيرا وأدخل يده داخل الفرن ملتهبا وأقفل مفتاح الفرن، فانطفأت النار· لم يكن، للأسف، تلك الفترة رجل الإطفاء، وكان لحسن الحظ عادل رجل المطافئ “بشجاعته أخمد النار” وأنقذ حياتنا، وأنقذ حياتي···
انتقلنا إلى مراكش في التسعينات بانتقال أبي من البنك الذي كان يعمل فيه بآسفي إلى نظيره بكليز، حيث تم تعيينه هناك· وزاد شقاء عادل مرة أخرى وهو لا يزال طفلا عندما حل الرحيل ومغادرة آسفي نحو مراكش وجاءت عمليات الرحيل بكاملها ومرت على عاتقه حتى أنهكت كاهله: ملأ عشرات العلب من الورق المقوى (كرتون) بالأمتعة ومختلف المنقولات وحملها إلى السيارة أو الشاحنة الموجودة قرب المنزل، وتم تكرار نفس العملية في مراكش حتى أرهقت قواه· فكلما تعلق الأمر بحمل الأثقال المنزلية كان من نصيب الأب والإبن الأكبر· وكم من مرة كذلك نقل أحد إخوته، خاصة العود المعوج، وكم من عائلة احتضنت عودا معوجا على الرغم من نفسها، الذي تعرض عدة مرات لحوادث عندما كان يمارس كرة القدم مع أبناء الحومة كل أسبوع، وكان عادل دائماً هو من يتكبد العناء وينقله إلى المستشفى للعلاج في غياب الوالدين·
كان هذا الطفل البئيس، في الواقع، منذ الصغر وكأنه معكوف الظهر تحت ثقل المسؤولية العائلية· فكلما حلت مصيبة بالعائلة كان سباقا لفكها مهما كلفته من جهد· وكان لحسن الحظ يتغلب على هذه الأحداث في أغلبية الأحيان· وكم من مرة سقطت أمي طريحة على الأرض بدعوى أنها أصيبت، لسبب أو لآخر، بوعكة عصبية، وكان عادل، الطفل المسكين، المطيع، هو الذي يهرع دائما لمساعدتها، بالماء والبصل تارة، أو بالمفاتيح في اليد تارة أخرى· أما أنا كنت لم أؤمن قط بهذه الأكذوبة· وكانت أمي تلجأ لهذه الحيلة الجهنمية كلما رغبت في جلب شيء منا أو من أبي (شفقة، سفرا، نزهة، أو شيئا من هذا القبيل)· وكان عادل الطفل اللطيف، هو الذي دائما وأبدا يؤدي ثمن هذه الخدع والمكائد· وإذا كانت أمي من ولدت طه، كان عادل الأم التي لم تلد هذا الطفل: فهو ربا واعتنا وسهر، وهيأ زجاجة الرضاعة، وغير حفاض الصبي، وقاد إلى المدرسة، ودافع كلما اقتضى الأمر ذلك، إلى أن اشتد عود هذا الصبي· إنما الأخ الحق، أو الإبن الحق، من يكون إلى جانبك، وتجده في السراء والضراء، وليس الأخ، أو الإبن، من يلدغ كالحية بلسانه·
والغريب في الأمر، ولسوء الحظ، كذلك، عندما مرض ذات ليلة بنوبة خطيرة في كليته، أمضى الليل كله يتلوى من الألم دون أن يجرأ على إيقاظ والديه خوفًا من أن يصابا بالذعر عند رؤيته في مثل هذه الحالة· ولم يجد أحدا في تلك الليلة المشؤومة ليطمئن عليه ويخفف من ألمه، سوى أنا بجانبه، مرتبكة، قلقة، مكتوفة اليدين· “خير الناس أنفعهم للناس”، ويقول الشاعر أبو العتاهية (748-826) :”اقض الحوائج ما استطعت، وكن لهم أخيك فارج، فلخير أيام الفتى، يوم قضى فيه الحوائج”·
كان عادل كذلك، في أغلبية الأحيان، يقوم مقام الأم في دورها داخل المنزل وخارجه· تعلم الطبخ وأجاده، وأجاد، بقوة الظروف وحكم القضاء والقدر، أشغالا وخدمات منزلية أخرى كثيرة· وصار وأصبح يطبخ في المطبخ بكل سهولة، ويهيئ لنا أطباقا شهية، لأسرة متواضعة، في غياب الوالدين، من خبز ورغيف وشاي وحريرة وطاجين وكسكس···وكان من وقت ﻵخر يرافقنا، أنا وطه والآخر، العود المعوج، من أسيف قرب مدرسة وادي المخازن قصد ساحة جامع الفنا، ونحن نمشي ماسكين بقوة أيدي بعضنا البعض، خوفا من أن نضيع أحدا منا، ولتفادي حوادث السير كذلك· لا، لم نكن عميانًا، كنا مجرد أطفالا، غرباء في مدينة كبيرة· نلهو ونتجول قليلا، في الساحة كالمعتاد، بين مختلف أنشطة التعبير الفني الشعبي ومحلات الطبخ، وعطور الأكلات الشهية تداعب أنوفنا· وكنا نكتفي بطعام بسيط قيمة ما نكسبه من دراهم: نأكل خبزا هناك ونشرب حريرة بالقليل من الدراهم التي وفرناها خلال أسابيع، ريالا بعد آخر، ثم نهرول إلى الدار قبل الغروب، وفي حوزتنا قسط من الحريرة لأبي، كان يشتهي حريرة جامع الفنا، ونعود إلى منزلنا بنفس الطريقة التي جئنا بها، ماسكين كالعادة، بكل قوة، أيدي بعضنا البعض، مسرورين، مكتفين بالقليل· إنما “غنى النفوس، كما قال علي بن أبي طالب، هو الكفاف، فإن أبت، فجميع ما في الأرض لا يكفيها”·
ومنذ أن أصبح شابا، كان عادل يطمح دائمًا في السفر إلى الخارج، للدراسة أو للعمل هناك، كباقي الشباب المغربي المحتاج، الطموح، العاطل· كان يريد أولاً الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وطلب التأشيرة على هذا الأساس في القنصلية الأمريكية بالرباط مرارا، لكن بدون جدوى· وشاءت الأقدار فيما بعد وسافر إلى الخارج، لكن ليس في اتجاه أمريكا، بل قصد أوروبا، نحو ألمانيا، ووصل، وداست قدماه أرض أوروبا، وعمل هناك، وقطن في مينيك، وتزوج هناك، وأنجب، وعاش سعيدا· على أية حال، أتمنى له ذلك من كل أعماقي· كم من شاب مغربي اعتزم القيام بنفس هذه الرحلة الجميلة، إلى ديار الرفاه والهناء، ولسوء حظه، لم يفلح في هذا المشروع، وكانت خيبة الأمل صدمة، ورجع إلى وكره مغبونا، أو رد إلى بلده كالبضاعة، أو أصبح فريسة الحيتان في البحر· هنيئا لك بمسارك أخي الحبيب· أليس من حقي أن أقول لأخي حبيبي· أليس الحب انجذابا قويا، ومشاعرا وعواطفا ؟ أليس الحب إحساسات نبيلة، وأخلاقا فاضلة، اتجاه الأم أو الأب أو الأخت، أو الأخ، كذلك ؟ إني أحبك، وإني لفخوربك
· الجيلالي شبيه، أستاذ التعليم العالي في القانون والمالية والإدارة ومنهجية العلوم، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، بمراكش·

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock