أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

( الحلقة 7 ) صدى السنين ـ فرسان الأنفاق 2 ـ للكاتب قاسم رابح واعمر

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

النضال النقابي لشغيلة جرادة

رغم الحضر القانوني المضروب على تكوين النقابات والجمعيات من طرف العمال المغاربة، فإن هذا المنع كان قد قوبل بنوع من غض الطرف من لدن السلطات الفرنسية عن التحاق العمال المغاربة بفروع النقابات الفرنسية بالمغرب ..ولا شك أن ذلك كان بدعوة أو بتحريض من العمال الفرنسيين اليساريين المنتمين بالخصوص إلى الحزب الشيوعي الفرنسي،..وهكذا نجد أن نخبة من العمال المغاربة قد التحقت بالكونفدرالية العامة للشغل ــ وذلك محاولة منهم لخدمة القضايا العمالية والدفاع عن مصالح العمال…
تمكنت هذه النخبة من النشطاء النقابيين من التغلغل في النقابات العمالية التي كانت تناضل من أجل تحقيق أهداف اجتماعية مشروعة كرفع سلم الأجور وتحسين ظروف الشغل لتفادي الحوادث وكذا تحسين وضعية العمال…وكانت انطلاقة النضال العمالي للمغاربة انطلاقة واعدة .. خاصة وقد تبناها العمال الفرنسيون ذوي التجربة النقابية التاريخية… وأن هذه الانطلاقة التي لم تكن دوافع تحركاتها نقابية فقط ، وإنما كانت تغذيها المشاعر الوطنية الصادقة والمتقدة في قلوب مجموعة من الشباب المغربي والتي لا يمكن لها أن تخبو إلا بالانعتاق من نير الحماية الاستعمارية الغاشمة…
ابتداء من النصف الثاني من الأربعينات، عرفت الحركة النقابية بجرادة هزة عنيفة أثرت فيها تأثيرا بليغا، قد لا أغالي إذا قلت أن هذا التأثير لازمها طوال مسيرتها النضالية، وكان ذلك على إثر الحدث الذي عرفته مدينة جرادة ألا وهي الفاجعة التي راح ضحيتها ثمانية وأربعون من اليهود المغاربة القاطنين بجرادة.. وقد تم توجيه إصبع الاتهام إلى مجموعة من النقابيين المغاربة، الذين برزوا على الساحة والذين اعتقلوا ، وعلى رأسهم النقابي المشهور الطيب بن بوعزة…
والغريب في الأمر أن هؤلاء النقابيين الذين تم اعتقالهم بتهمة القتل العمد والتحريض على القتل، هم أنفسهم الذين قاموا بكل ما في وسعهم من أجل حماية ضحايا الغليان الشعبي، الذي انفجر في أعقاب ما أقدمت عليه القوات الصهيونية من احتلال للأراضي الفلسطينية، وتهجير للشعب الفلسطيني.. وقد قام النقابيون بهذا العمل الإنساني الشريف ، بعدما تأكد لهم تقاعس ومماطلة قوات الأمن في القيام بواجبها من أجل حماية اليهود المغاربة..


ولعل في هذه القصة المأساوية التي يلفها الكثير من الغموض، ما يؤكد بالملموس أن مدينة جرادة الصغيرة ، قد أصبحت مسرحا لحبك المؤامرات السياسية الدولية الكبيرة والمعقدة.. بل ونقطة لتعارض خطير لمصالح المستعمر الفرنسي مع قوات محلية ربما كانت تتمثل في لوبي اليهود المغاربة المعروفين بحسهم التجاري وبتزعمهم لرواج السلع وانسياب الأموال..
وحتى يضرب الفرنسيون أعداءهم أو منا فسيهم من هؤلاء اليهود بجماعة النقابيين تحت إشراف الشاب الطموح الطيب بن بوعزة الذي استطاع أن يجمع من حوله ثلة من العمال والشباب المثقف رغم قلتهم…فقد تكون المخابرات الفرنسية قد عمدت إلى استغلال الظرف السياسي المتفجر فأججت المشاعر الدينية والقوميةــ الوطنية لأبناء جرادة، وكراهيتهم للصهاينة العنصريين الغاصبين،من أجل تأليبهم ضد اليهود المغاربة للقيام بالمجزرة الرهيبة في حقهم…
لم تكن هناك أية جهة أخرى لها أدنى مصلحة من وراء الفتك باليهود وإرهابهم، والتخلص في نفس الوقت من جماعة النقابيين الذين رغم شح المصادر، فيبدو أنهم كانوا قد دأبوا على عقد اجتماعات خلاياهم السرية بأماكن مختلفة بما في ذلك ” عكاية” التي تقول بعض المراجع أنها حظيت بعقد سلسلة من الاجتماعات لرفاق “بن بوعزة”..حتى ذاع صيتهم وعم فضاء مناجم جرادة بل والمناجم الأخرى في المنطقة الشرقية وفي باقي جهات المغرب..
وستكون فاجعة موت اليهود ،ذريعة استعملتها السلطات الفرنسية لتنزل بقمعها على رقاب كل النشطاء النقابيين والسياسيين وخاصة على الطيب بن بوعزة ورفاقه الذين تم اعتقالهم يوم 6 يونيو 1948 و قد حوكم بعضهم بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة وأطلق سراح الآخرين ثلاثة أشهر بعد ذلك ، بدون متابعة ،…
وابتداء من هذه الفترة سنجد أن السلطات الفرنسية قد بدأت فعلا حبس أنفاس عمال جرادة، وأخضعت لمراقبتها الدقيقة الميادين الاجتماعية والسياسية والنقابية،وسخرت لهذا الغرض إمكانياتها الجبارة ،وخبرتها التاريخية العريقة…فبعد أن منعت على الطيب بن بوعزة ورفاقه الإقامة بجرادة ، نهجت في حق عمال المناجم سياستها القمعية..وعملت على تمييع نضال الطبقة الكادحة وجعلت مدينة جرادة تابعة لعمالة وجدة في حركاتها و سكناتها بل وحتى في الاحتفالات بالعيد العمالي فاتح مايو، وذلك بوضعها عراقيل مادية ولوجيستيكية أمام العمال حتى لا تمكنهم من الاحتكاك بالثقافة العمالية العالمية…منذ تلك الفترة فرضت على جرادة حصارا ثقافيا غيبت من خلاله كل الأفكار التقدمية العمالية كما غيبت كل رموز وشعائر الثقافة العمالية… ونهجت سياسة” فرق تسد” بين العمال لتصبح كل فئة من العمال حبيسة لانتمائها القبلي الضيق والمهني المعلب..ففرقت بين الأطر الإداريين والمهندسين وبين الطبقة العاملة في السكن وهيأت للطبقة المثقفة ظروفا خاصة عزلتها كلية عن العمال وذلك بإنشاء النادي الخاص بالمهندسين..بينما شجعت على تفتيت كتلة العمال مستعملة كل الأساليب ابتداء من الوشايات الضالة المضلة وتغذية النعرات القبلية بين العمال. ..
من هنا نلمس جذور التفرقة والعداء التي سوف تضرب أطنابها بين مركزيتين نقابيتين معروفتين في عهد الاستقلال،… المركزيتان اللتان شحنتا بالكراهية لبعضهما البعض، وبتأجيج الصراعات السياسية بينهما… إذ لم يتورع مسيرو الشركة في عهد الاستقلال ليس فقط للترويج للفكر الاستعماري، بل وللحفاظ عليه كإرث مقدس أعطى نتائج جيدة في استنزاف القوى العمالية وتدجينها…
وكم كانت المناظر مؤلمة عندما كنا نزور مقري المركزيتين النقابيتين لنجد فآت واسعة من الشغيلة مكدسة في شبه مقهيين جمعا من الأوساخ ما يندى له الجبين..والعمال المساكين منهمكين في لعب الورق أو في لعبة الأرقام وروائح الكِيف الذي يستهلك بكل حرية، تزكم الأنوف..كان المقهيان يحتلان في واقع الأمر مكاني الشبيبتين التابعتين للنقابتين.. يعني شبيبة المستقبل العمالي: أبناء وأحفاد عمال المنجم..الذين فتحوا أعينهم على تدخين الحشيش..بكل حرية…وكأنه مكسب ثمين جاء نتيجة للنضال المستميت للمركزيتين النقابيتين…
ويستغرب بعض المنقبين في أدبيات النضال النقابي بجرادة..بل ويتساءلون: لماذا كان مصير العمل النقابي بل وحتى السياسي هو الفشل الذريع وذلك رغم الكثير من المحاولات الجادة من طرف الأحزاب الوطنية التقدمية والأحزاب الاشتراكية واليسارية من أجل التغلغل في الوسط العمالي ولكن دون جدوى اللهم إذا استثنينا تسجيل حضور بعض المناضلين السياسيين لأحزاب يسارية استطاعت مع ذلك الصمود في الحقل النقابي لمدة قصيرة قبيل اتخاذ القرار بإغلاق أبواب المنجم…وكأني بتواجد هؤلاء كان السبب المباشر الذي عجل باتخاذ القرار بإغلاق المنجم…
ستكون لي وقفة مع هذه التساؤلات وغيرها ضمن الإصدار الموالي بحول الله، وذلك عندما سأنخرط شخصيا في تجربة نضالية متواضعة مع نشطاء نقابين وحزبيين بوجدة وجرادة وذلك في بداية السبعينيات…

***

أبطال الأعماق وفرسان الأنفاق..
ـ تشريح أفقي ـ
وفي غمرة حماس وأحلام الشباب والتفاعل مع فكرة تأليف كتاب حول جرادة، وحول ظروف عمال مناجم جرادة، فقد أعجبني عنوان “جرالال” الذي هو على وزن “جرمنال”، ومع ذلك فقد بدا لي أن في هذا العنوان الكثير من التصنع والكثير من البهلوانيات، ولذلك فضلت الاصطفاف مع الذين حبذوا التشبث بالطريقة التقليدية القديمة في تسمية الكتب، والتي تستعمل عبارات من السجع اللغوي، التي لا تكاد تقرأها حتى تتدفق أمام عينيك صور وفصول محتوى الكتاب.. فكأن الكتاب كان يقرأ من عنوانه.. فمثلا الجغرافي والرحالة المغربي الإدريسي أطلق على كتاب له لخص فيه رحلاته : “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق..” أما ابن خلدون فقد سمى كتابه في التاريخ بـ : “العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر..” وكذلك كان الشأن بالنسبة لعلماء الدين والمنطق والفلسفة واللغة والأدب.. الخ.. فقد ساروا على هذا النهج.. وأضرب مثلا بالإمام السيوطي الذي يحكى، أن له أزيد من ألف مصنف في كثير من ميادين العلوم والمعرفة،.. وكل عناوينها بالطريقة التقليدية.. فله مثلا : “الذرة الثمينة في نكاح السمينة” وله كذلك : “طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة”..
وهكذا فقد حاولت إقناع أصدقائي بأن أي كتاب نكتبه حول جرادة، فيجب أن يكون عنوانه بالطريقة السجعية التقليدية التي تجذب إليها انتباه القارئ، واقترحت عليهم عنوانا كان يبدو لي آنذاك جذابا ومستوفيا للغرض وهو: “أبطال الأعماق وفرسان الأنفاق..”،. الذي أعجب أصدقائي، فراح كل منهم يحاول إضافة شيء من عنده، حتى صار العنوان طويلا.. بل وأصبح أطول من عنوان تاريخ ابن خلدون..
وقد عقب أحدهم في الختام بقوله : “إوا حتى يتزاد نسميوه مراد”.. فعلا.. إلى أن يرى الكتاب النور.. أو عندما يقترب من رؤِية النور.. آنذاك فقط يمكن أن نبحث له عن عنوان.. خاصة وقد أصبح عنوان الكتاب في عصرنا لا يلعب ذلك الدور الذي كان منوطا به..وأصبح المهم هو المحتوى.. رغم أن العنوان المعبر الجميل سوف لن يزيد الكتاب إلا جمالا…
مر زمان طويل على دردشتي مع أصدقائي، الذين منهم من التحق بالرفيق الأعلى ومنهم من ينتظر.. ورغم أن الفكرة كانت من باب أحلام اليقظة.. وأن شبه الوعد الذي أخذته على نفسي كان من باب المزاح والتسلية.. ومع ذلك فقد أنجزت جانبا من الأمنية المشتركة من خلال سرد المرحلة التي عشتها بجرادة… وهذا هو “أبطال الأعماق وفرسان الأنفاق..” قد اكتملت صورته.. ورغم أني لم أخصص الكتاب فقط لعمال المناجم ومشاكلهم، ومع ذلك فإن معظم فصوله تدور حول الحياة بجرادة، وخاصة حول مناجم الفحم وعمالها،.. خلال الفترة التي قضيتها بجرادة..
إن الظروف التي مرت بها جرادة والتطورات المتسارعة التي عرفتها.. حكمت علي بنوع من الانتظار الاضطراري لأبقى واقفا متفرجا على مجريات الأحداث، لا أكاد أصدق ما أسمع وما أرى من كثرة المفاجآت المتتالية، وكأني كنت أنتظر نهاية سعيدة لشريط مأساوي، ونسيت بل وتناسيت، أن كل ذلك يتم على حساب تدوين المحطات المهمة من الماضي التي يطويها ضباب النسيان وثقل حقب الزمان بسرعة فائقة،.. بل وأكثر من السرعة التي استغرقتها المحادثات والمفاوضات التي تمخض عنها إغلاق مناجم جرادة وتسريح العمال ووضع حد لشريط من المآسي استمر طويلا… لتظهر مآسي أخرى أكثر مأساوية من مآسي الماضي..


لا أحد كان بإمكانه أن يصدق أن المنجم الذي كان في وقت من الأوقات يضم ما يزيد عن الستة آلاف عامل، قد تحول بين عشية وضحاها إلى خراب يسكنه البوم والغربان وخفافيش النسيان ..
ومع ذلك، فكل من عاش في جرادة، وكل من كانت له قرابة بـ “أبطال الأعماق”، سيدرك أن معاناة الإنسان، مواطن جرادة، ستبقى دائما في صلب الموضوع، رغم تغير الزمان والشركاء ورغم موت المئات من “فرسان الأنفاق”.. لأن مآسي جرادة تورث كما تورث الثروة، ولا تموت أبدا بموت صاحبها..لأنها نقشت على صفحة ذاكرة الأجيال بلون الفحم، كما نقشت جراح الفحم باللون الأزرق الممزوج بالدم والنار على أجسام “أبطال الأغوار”.. وهكذا ستبقى محنة مواطن جرادة كملحمة متمردة عن إدراك العقل البشري، وعن الأعراف والتاريخ، لا أحد يستطيع الإلمام بمآسي الماضي الذي أصبح بعيدا، ولا التكهن بمدى مأساوية فصولها اللاحقة.. فإن لم يعد هناك استخراج فحم بتوقيع الشركة، فقد أصبح يستخرج بالاسم الشخصي للعامل الذي يحمل بصمته كعامل مغامر بدون “رقم”.. هذا المغامر الذي هو ابن أو حفيد، مغامر شرعي كان يحمل “رقما” رسميا، مر ذات يوم في زمن جرادة.. هذا “الرقم” الذي انتقل من ظلام الأعماق وضيق الأنفاق إلى ظلام وضيق القبور، بعد فترة تقاعد جد متعبة ومؤلمة صحبة سعال وحشرجة السيليكوز،..
نعم هناك فرق كبير بين مغامرة الأمس المقيتة ومغامرة اليوم الفوضوية.. بين مغامرة الأب أو الجد والإمكانية الضخمة والإنتاج الضخم وتسويق فحم جرادة الذي كان معروفا عالميا، وبين مغامرة الابن أو الحفيد واستعمال الوسائل التقليدية بل والبدائية بما في ذلك الحفر بالفؤوس والأظافر وإنتاج بضعة أكياس وبيعها بدراهم معدودة لا تسمن ولا تغني من جوع، ويبقى الدافع إلى المغامرة سواء في الماضي المؤلم أو في الحاضر الموجع، هو ذلك العدو اللدود للإنسان : الفقر..
نزح الأباء و الأجداد إلى “جرادة” نزوح حشرة الجراد التي اضطرت إلى مغادرة جفاف “الظهرة” على ظهر خروف ليستقر بها الحال عند خضرة الجبال التي تحيط بالمكان الذي سميي باسمها : ـ ألم أقل أن محنة جرادة ملحمة متمردة عن إدراك العقل البشري ـ كان القحط والإملاق والأوبئة قد بدؤوا الفتك بأسر النازحين أمام أعينهم.. كانوا هم كذلك سيلقون حتفهم لا محالة، ولهذا فضلوا مغامرة الشغل بالمنجم والعيش بكرامة مؤقتة وبأقل خسارة ممكنة لمدة لا يعلمها إلا الله في انتظار مرض السيليكوز الذي سوف يهجم عليهم في يوم من الأيام بجيشه الذي لا يقهر: بخنق الأنفاس والسعال الحاد والحشرجة وغرغرة الوداع التي تطول أحيانا،.. ولكن قبل ذلك اليوم هناك حياة يجب على الإنسان أن يحياها ويعيشها،يجب أن يتمتع بها قدر الإمكان، يجب أن يتزوج ويخلف ذرية ينشئها تنشئة حسنة ويعلمها حتى تتمكن من فرض وجودها.. يجب أن يساعد ما تبقى من أهله الذين تركهم خلفه في القرية ويضمن لهم الأكل والدواء.. ومن بعدها..، فليأت الموت في صورته الطبيعية أو في صفة المرض المهني الملعون.. فما الفرق؟ الموت فرض علينا سيداهمنا في يوم من الأيام مرضى كنا أو أصحاء.. إنها مسألة الأجل فقط…
هؤلاء هم عمال مناجم جرادة، الذين كانوا يعرضون أنفسهم للموت في كل لحظة، ويعرفون ذلك تمام المعرفة.. يعرفون أنهم قد يكونون ضحايا لانهيار مفاجئ كسرعة البرق، فيختنقون تحت أطنان ركام الصخور والتراب.. أو قد يعزلهم الانهيار المباغت عن الأحياء ليموتوا واقفين كنخل واحة غطتها الرمال،.. كانوا يعرفون جيدا أن تواجدهم بالقرب من المكان الذي يحتوي على عروق الفحم والذي يستعان على كسره بالمتفجرات هو تواجد خطير،.. حتى وإن لم يصابوا بأي أذى ظاهريا، فإن اختناقهم بالغاز يبقى واردا، وأن شعورهم بالهلع يوازي شعور من مر بمحنة الزلزال العنيف.. فبالإضافة إلى الانفجار الذي يبقى دويه يصم الآذان لوقت طويل، فإن استنشاق العمال للغبار الرقيق جدا الذي يحدثه الانفجار والذي يصبح يغطي كل فضاآت الأعماق، وذلك رغم استعمال التهوية.. فإن هذه الظروف كانت كافية لإصابة فرساننا بالسيليكوز.. بغض النظر عن المهن التي كانوا يزاولونها تحت أعماق الأرض.. فابتداء من العمال الذين ينقرون جدران مقالع الفحم بآلاتهم التي لا تهدأ “les piqueurs”، رفقة مساعديهم الذين يلازمونهم ملازمة ظلهم، ومرورا بواضعي الدعامات الخشبية في كل أرجاء الأنفاق اتقاء للانهيارات : “les boiseurs”، والمكلفين بالحفر وكسر الصخور وتهيئة الأنفاق والتخلص من ركام الأحجار والأتربة ووصولا إلى الأخصائيين الذين أنيطت بهم مهمة وضع المتفجرات “boutefeux”، و كل من له علاقة بتجميع قطع الفحم.. كل هؤلاء لم يكونوا فقط سواسية أمام الأخطار المحدقة بهم في كل وقت،بل وفي نيل نصيبهم من استنشاق غبار السيليس القاتل..
كان فرسان الأنفاق في صراعهم المرير وفي نزالهم الخطير لعروق الفحم المتحجر، يعانقون الموت يوميا بل وفي كل لحظة في جوف الأعماق،..في المساحات الضيقة، بين أنياب الأحجار و قبور الأتربة، محاولين استئصال راقات الفحم الحجري من أجل استخراجه بعد كسره في مرقده الذي جثم فيه منذ ملايين السنين ..وبعد ذلك يبعثون به ليمر عبر صهاريج الماء من أجل تطهيره من الشوائب كالحجارات والأتربة الفحمية الدقيقة التي تهوي لتستقر بقاع الصهريج بينما “الفحم” الخالص يبقى عائما وذلك حسب وزنه، بحيث ينقسم بشكل أوتوماتيكي وتلقائي إلى ثلاث فئات: كبيرة ومتوسطة وصغيرة ، فتوضع كل فئة على حدة، ويحمل على القاطرات جاهزا للتسويق المباشر ، وذلك حسب طبيعة الاستهلاك التي سيقتنى من أجلها.. أما الرواسب الدقيقة من الفحم فكانت تعالج وتخلط بعناصر أخرى وتجمع في شكل كويرات بيضوية مضغوطة قابلة للاشتعال..وكان عمال المناجم يحصلون على نصيبهم بثمن رمزي من هذه الكويرات المضغوطة، التي كانت تزرع دفء الحياة بمدفآت منازلهم وتمنح السعادة للمصطلين من حولها طيلة فصل الشتاء.


كان فرساننا يتنافسون فيما بينهم من سينتج أكثر؟ من سيقطع ويملأ أكبر عدد من القاطرات.. أو الوحدات التي يوزن بها الفحم.. ؟ وبالأحرى من سيربح منهم النصيب الأوفر من الأموال ؟..إلا أن التأويل الآخر لهذا التنافس هو: من سيموت من الفرسان قبل الآخرين؟ من ستوافيه المنية في نزاله مع عملاق الفحم الأعمى الأصم ليسلم الروح لبارئها قبل الآخرين؟..والموت قبل الآخر في عرف الفرسان النبلاء في مثل هذا التنافس يسمى بالإيثار، أي تفضيل الغير على النفس، كما جاء في القرآن الكريم “ويؤثرون على أنسهم ولو كان بهم خصاصة”.. وهكذا نجد أبطالنا يحيلوننا على أخلاق وخصال من المستوى الملحمي العالي ..من المستوى الرفيع..من مستوى النبلاء الحقيقيين الذين يتعرضون لبشاعة الموت من أجل الآخر،يتعرضون لبشاعة الموت قبل الآخرين بصدورهم العارية..إن شجعاننا يحيلوننا على جبهة القتال حيث يكون الحظ في الموت متساويا ويكون المتنافس الأكثر حظا من سيكون الشهيد الأول؟ رغم أنه يعلم علم اليقين أن الكل سيستشهد طال الحال أم قصر..
وتماما كما في جبهة القتال حيث يكون تأثير القواد العسكريين واضحا، فكذلك الأمر بالنسبة للمنجميين، إذ لا شك أن تصرف الرؤساء المباشرين كالمهندس و”الشاف دو بوست” chef de poste و”الشاف بوريون” chef porion” مع العاملين بالمقالع الفحمية بالأنفاق، كان يراعي فيما يراعيه، الجانب التشجيعي للعمال البسطاء الذين كانت الكلمة الطيبة من طرف أحد رؤسائهم ترفع من معنوياتهم و تملأهم حماسا، وخاصة إذا كان المسؤول أجنبيا.. كانت كلمات الإطراء و التشجيع التي تقال في حقهم ،تهوي إلى أعماق ذواتهم القاحلة، لترويها برحيق من رد الاعتبار الذي فقدته منذ أن حل الجفاف بالروابي والضفاف،ومنذ أن امتطت حشرة الجراد ظهر الخروف وغادرت الهضاب صوب الجبال لتكشف عن المكان الذي سمي باسمها،..والذي كان يحتوي على معدن ثمين لم تفضحه إلا أرجل الأرانب…
هؤلاء هم العمال الذين تتلمذوا على يد الخريجين من المدرسة العريقة لـ “لوجــوه السوداء أو القاتمة” “les gueules noires” من أحفاد عظماء المنجميين التاريخيين بشمال فرنسا بمنطقتيPas De Calais وAlsace-Lorraine ، حتى اكتسبوا تجربة عالمية في ميدان إنتاج واستخراج الفحم،.. وكانوا يسمونهم “مونابريا” بالنطق المحلي للكلمة الفرنسية “mineur”، الذين كانوا يشكلون رأس الحربة لمن خلفهم من جيش العمال المياومين.. لا شك أن أي تشجيع لهم.. كان يؤتى أكله.. إذ كثيرا ما كنا نسمع أن فلانا قد تقاضي أجرا مرتفعا جدا عن نصف الشهر الذي أشتغله.. مما كان يضفي عليه هالة من التقدير و الوقار.. وكأني به قد قرب أجله فراحوا يذكرونه بالخير..
لذلك، فهو رغم طيف تلك الفرحة العابرة فإنه كان يبدو في عالم آخر.. لأنه كان يعلم أكثر من غيره أن شهرته سوف لن تدوم طويلا.. أو ربما كان يحس في قرارة نفسه أنه بقدر ما ينتج بقدر ما يقترب من الأجل المحتوم..، وبالأحرى فإن أجرته كان يجب أن تكون أكبر بكثير مما يتقاضاه،.. وأن الأجرة الزهيدة التي يحصل عليها لا تساوي حبة خردل أمام المغامرة بحياته التي يقدمها قربانا من أجل انتزاع قطع الفحم من أفواه تماسيح الموت المتربصة به في كل لحظة في ظلام الأنفاق.. كان يعلم أن ثمن أطنان الفحم التي استخرجها بواسطة استعمال جهده البدني على مدى الثماني ساعات من العمل المضني والخطير، كانت تفوق الأجر الذي يحصل عليه بأضعاف مضاعفة..
كان العامل الأمي الجاهل الذي علموه كيف يعالج قطع الفحم بالآلة الأوتوماتيكية، ورغم جهله كان يفهم معنى المقايضة أو التبادل، وأنه لا يمكنه أن يحصل على أي شيء بالمجان.. فلكي يحصل على أي شيء فلا بد أن يؤدي شيئا آخر مقابله.. وهكذا، فقد وجد نفسه ينتج ويعطي أكثر مما يحصل عليه.. وإذا قدر عمله بالزمن فيمكن القول أن ثمن ما ينتجه من الفحم خلال ساعة واحدة من الزمن، يكون كافيا لسد حاجياته وحاجيات أسرته فأين يذهب إذا ثمن الساعات السبع المتبقية..؟ أين تذهب القيمة المضافة أو الزائدة بلغة “كارل ماركس”..؟
وكان يفهم أن ثمن الساعات السبع المتبقية يذهب إلى جيوب الشركة والمديرين وطاقم العمال الإداريين والمهندسين والخرائطيين،.. أفراد جيش عرمرم لا يعرفون حتى اسمه… كلهم كانوا يأكلون من عرقه بل من دمه ولحمه وبالتالي فكلهم كانوا يساهمون في السرقة من سنوات عمره، والكل كان مشاركا في مؤامرة موته من قريب أوبعيد..
نعم.. هم كذلك كانوا يشتغلون.. هذا صحيح.. ولكن هم يشتغلون في أمن وآمان.. وهو يشتغل في ظروف يصرف خلالها فعل مات للأمر مع نون التوكيد الثقيلة.. ناهيك عن حوادث الشغل التي لا يمكن إطلاقا لعامل اشتغل بمنجم جرادة أن يكون قد خرج منه سالما معافى،.. لا بد وأن يكون قد بترت أحد أصابع يديه أو يده كاملة أو رجله أو جزأ منها أو يكون فَقَدَ عينه أو يكون قد أصيب بكسور في عظامه..
***

في عهد الاستعمار…
كان فرسان الأنفاق وهم يخرجون من أعماق الأرض كأشباح غريبة، لا يستعيدون صفتهم الآدمية إلا بعد مرورهم بمرحلة التطهير عبر قاعة الحمام وبعد إزالة بعض ما علق بجلودهم من الغبار الأسود.. وكأنهم مخلوقات من عوالم أخرى، أنشئت نشأة غير نشأتنا.. وكأن مرورهم اللازم عبر الاستحمام، كان مرورا عبر مرحلة تطهير مقدسة لا تكتمل آدمية نشأتهم إلا بها..
كان منطق المستعمر القوي يملك من المصداقية ما يضفي عليه الكثير من الاحترام لدى الساكنة الأمية والجاهلة بمعطيات الأمور.. خاصة عندما لبس هذا المستعمر لبوس التضامن الاجتماعي والعمل الخيري.. وجعل التطبيب والتداوي والتعليم في متناول أبناء العمال.. وجعل التسوق والتبضع مباحا من المتجر الخاص بالشركة، حتى للذين لا يملكون مالا، ولكن يملكون بطاقة العامل، مختومة بخاتم الشركة وتحمل رقما.. كان بإمكانهم التسوق أولا ثم الأداء بالتقسيط المريح بعد ذلك.. بالإضافة إلى الاستفادة من أكياس الخشب والفحم الخاصين بالطبخ والتدفئة بأثمنة رمزية..


وحسب المعلومات التي سمعتها من مصادر عديدة فإن التفاهم بين العمال الأميين البؤساء، حثالة البروليتاريا، وبين الطليعة ممن ساقتهم الظروف ليكونوا قادة للنضال العمالي في جرادة، كان شبه منعدم.. والحقيقة أن هذا الموضوع يستدعي أكثر من وقفة، بل ويحتاج إلى إعادة دراسة النضال العمالي دراسة جديدة.. خاصة وأن هذه الدراسة قد فقدت الآن كل أسبابها المادية المباشرة، ويبقى السبب الوحيد هو معرفة الحقيقة التاريخية.. أنا لا أريد هنا اتهام أي أحد، سواء من القادة النقابيين أو المناضلين السياسيين، ولكن أريد فقط أن أعرف أكثر عن هذه الحقبة، وسوف لن أكون قد أفسدت للود قضية إذا أدليت برأيي المتواضع بعد فوات الأوان.. وقد بدا لي وكأن العمال كانوا في وادي والقادة النقابيون وممثلو الأحزاب السياسية في وادي آخر.. وحسب رأي العمال وغير العمال ممن اشتغل بالمنجم، فإن “الباترونا” كانت أرحم بكثير، وأقرب بكثير إلى قلوب العمال بعكس من امتهن الدفاع عن حقوقهم… وقد يكون السبب المباشر هو جهلهم أو تجاهلهم بحقيقة وضعية الشغيلة بجرادة، وعدم تقييمهم تقييما موضوعيا لإمكانية عمال المناجم، أو الطبقة العاملة..هذه الطبقة التي كان همها الأول خلال هذه المرحلة هو أن تؤمن نفسها وذويها من المجاعة والوباء حتى لا يفتكان بها، في ظروف مناخية غير قارة، تخللها لمدة طويلة، جفاف كبير قلما شهد المغرب مثله،..وواكبه انتشار الأوبئة الفتاكة،وتدني مستوى معيشة الساكنة التي عشش الجهل بأدمغتها،وحاصرها التخلف والأمراض من كل جهة..
ورغم أن عمال المنجم في أغلب فترات حياتهم المهنية، كانوا كذلك الجندي الذي يحتضر من جراء جروحه النازفة وفقدانه لكمية كبيرة من الدم الذي يسري في عروقه.. فهو لا يستطيع المقاومة حتى ولو وضعت في يده أحسن سلاح.. لأنه كان منهكا.. وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الغيبوبة أو من الموت السريري.. ورغم ذلك فإن الحس القومي والديني كان دائما حاضرا لديهم بل بقي هو العرق النابض الذي لا يموت والذي من خلاله فقط كان يمكن مخاطبة مشاعر العمال المنهكين.. وليس عبر الحس الطبقي الذي بقي دائما مبهما في تصور الشغيلة وخاصة في الظروف المأساوية التي مرت بها.. والحصار الثقافي والتعتيم الإعلامي اللذين ضربا على جرادة منذ ظهور نشطاء نقابيين مغاربة.
ولا شك أن السلطات الاستعمارية كانت واعية بهذا الواقع.. ولا شك أنها استغلت هذه الظروف لصالحها ومارست على عمال المنجم سياسة “جوع كلبك يتبعك”.. وأن كل حركاتها كانت مدروسة،.. ولم تكن لتمنح للمواطنين المغاربة أي شيء هكذا مجانا أو لسواد أعينهم،.. بل كانت تعي جيدا ما كانت تقوم به،.. وِفْقَ سياسة واضحة لواقع متخلف مدروس،.. تتحكم فيه كيف تشاء.. تلين من مواقفها عندما ترى أن الأمور أصبحت لا تطاق.. ثم تشد الحبل إلى درجة أقصى ما يمكن لتزيد في استغلال العباد ونهب ثروات البلاد،.. باختصار كانت السلطات الفرنسية تمارس سياسة الاستنزاف في حق عمال المنجم..
فحتى الإصلاحات التي كانت تقوم بها كتعليم أبناء الشعب وتكوين تقنيين مساعدين وغير ذلك.. لم تكن لتقوم به إلا لأنها كانت في أمس الحاجة إلى طابور متعلم من هؤلاء الأعوان المكونين ليساعدوها على تأطير المجتمع المتخلف، ومن أجل جس النبض الاجتماعي من خلالهم، بغية إحكام السيطرة والتحكم في كل شيء…
إن السلطات الفرنسية الاستعمارية لم تخف أبدا طبيعتها وفلسفتها الاستعمارية والاستغلالية البشعة، التي كانت تفرضها بالقوة بما في ذلك قوة السلاح، وإشهارها للميز العنصري بين أبناء جرادة وحاسي بلال من جهة، كسكان محليين، أميين، مسالمين، مدجنين، طيعين، وسذج، يكاد معظمهم يطير فرحا عندما يضحك الـ”مسيو” المسؤول الفرنسي في وجوههم، أو تداعبهم الـ”مدام” إحدى المسؤولات الفرنسيات بكلمة طيبة، وبين الإنسان الفرنسي من جهة أخرى : الإنسان المتعلم، المثقف، المتفوق في كل شيء، والذي استعمر المغرب وأخضعه بقوة السلاح وقوة العلم وقوة العقل الفاعل والمتفاعل والمؤثر في محيطه والمدبر لمجريات أموره والمستشف لآفاق تطورها..

****

فمن هم عمال المناجم…؟
تراهم في المدينة يخرجون من مساكنهم مع ذويهم.. يمشون ككل الناس.. يتكلمون ويضحكون.. وأثر الفحم اللزج الذي لم تزله “الحكاكة” الخشنة في الحمام الدافئ لا يزال عالقا بأمكنة من وجوههم كالحفر الصغيرة تحت الأذنين أو حول جيبي الأنف.. ناهيك عن دائرة العينين التي ازدادت سوادا.. وكأنهم خرجوا لتوهم من دور التجميل..
تراهم أناسا بسطاء.. ولكن لو أدرت شريط أحداث يومهم أو ليلهم قليلا إلى الوراء ببضع ساعات، ما كنت لتصدق عينيك بأن هؤلاء البسطاء الذين تراهم أمامك كأناس عاديين، “يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق”… هم أنفسهم الفرسان الذين يصنعون الحدث في أعماق الأرض.. هم أنفسهم الذين باتوا أو ظلوا يصولون ويجولون في مختلف الأنفاق تحت الأرض ولكل منهم عمل جبار يقوم به، لكل منهم قصته في منازلة الصخور السوداء.. عمل شاق وجهنمي يدخل الرعب في قلب الفحم والحجر وفي نفوس سكان عوالم مخلوقات ما وراء الطبيعة، القابعة خلف ظلومات ما تحت الأرض… سوف لن تصدق بأنهم هم الذين قفزوا عبر جراحهم وعبر قطع الأصابع وبتر الأيدي والأرجل وعبر فقدان السمع والبصر وعبر انكسار عظم العضد والساق وقفص الصدر.. هم الذين لبسوا الجحيم وتسلحوا بالجحيم ومروا عبر الجحيم من أجل تحويل الجحيم إلى النعيم.. من أجل صناعة الثروة وغرس دعائم التنمية.. من أجل إذكاء شعلة الفرحة في نفوس آلاف السكان… هم أصحاب الأجسام النحيفة وأصحاب الوجوه القاتمة الذين أملى عليهم قدرهم بأن يحولوا بشقائهم تحت الأرض، شقاء الناس إلى سعادة فوق الأرض، وذلك عندما يزورون أسواق المدينة أو أسواق قراهم التي انحدروا منها، ليقتنوا ما عند الجزار والخضار وصاحب الدكان… وليزرعوا روح النشاط والحيوية في محراث أو منجل الفلاح وإبرة الخياط وكير الحداد.. وليعيدوا الأمل إلى جيش الحمالين وأصحاب العربات التي تجرها الحمير وأصحاب “الكراريس” التي يدفعها البشر.. ولينتزعوا الابتسامة غصبا من تحت تجاعيد الشقاء والمحن المرسومة على وجوه المتسولين…


نعم هؤلاء هم عمال مناجم جرادة الذين كانوا يبعثون بكثير من الفرح إلى البوادي التي انحدروا منها، وذلك بتمويل مشاريع صغيرة، وخاصة شراء قطعان الأغنام والماعز لذويهم ومعارفهم، من أجل رعايتها وتنميتها والانتفاع بخيراتها، بالإضافة إلى نصف ما ينتجه القطيع من خرفان وجديان على رأس كل سنة…
وكمثال على ما أسلفت، ومن الأشياء التي بقيت منقوشة بذاكرتي، أن مجموعة من أبطالنا عمال مناجم جرادة المنحدرين من “أولاد اعمر”، قاموا بكراء الحافلة التي كانت تربط جرادة بهذه البلدة، من أجل الاحتفال بعيد وطني بين أهلهم،.. ولقد شاهدت بأم عيني كيف تزين فرساننا إذ حلقوا أذقانهم حلاقة جيدة وقصروا من شنباتهم.. وكيف لبسوا أحسن ما لديهم : جلابيب من أثواب مختلفة.. ومنهم من لبس جلبابين،.. جلباب من ثوب غليظ ولكنه أنيق، ومن تحته جلباب آخر من ثوب شفاف أبيض اللون إلحاحا منه في إظهار أناقة أكثر،.. وغطى رأسه بالأدوار الحلزونية لعمامته الطويلة ذات اللون الأصفر أو الأبيض الشفاف بحيث قام برص هذه الأدوار ليجعلها تغطي جبهته، مباشرة فوق حاجبيه لتصبح في شكل أدراج رقيقة ومنسجمة.. بل ومتزاحمة ومتدافعة على مقدمة رأسه وكأنها آيلة للسقوط ثم تنحصر شيئا فشيئا إلى الخلف، ليتدلى منها شبه ذيل صغير يرسل عادة إلى الوراء في شكل مهمل، ليبقى مطلا أو ملامسا لـ”قب” الجلباب.. وقد يُثْنَى طرفٌ من هذا الذيل الصغير الخارج خلف الرأس على القفا ليشد أدوار العمامة الملولبة بطريقة محكمة، حتى تبقى محافظة لوقت طويل على شكلها الأنيق..
كنت قد انتهزت فرصة استعداد العمال للسفر إلى القرية لأقدم طلبي إلى الشخص المتزعم لتنظيم هذه الرحلة، والمتكلم الرسمي باسم مجموعة العمال المسافرين إزاء أرباب الحافلة وخاصة سائقها ومساعده.. وكان قد وضع سلهامه على المقعد الأمامي جوار السائق.. فتقدمت منه وطلبت منه إن كان بالإمكان السفر مع العمال إلى “أولاد اعمر”.. فأشار علي بأن أنتظر حتى يأخذ كل رفاقه مقاعدهم.. ويتأكد من حضورهم.. وآنذاك فقط سيعطيني الجواب.. وقد استبشرت خيرا عندما سألني من أكون فأجبته بأني تلميذ أتابع دراستي بإعدادية جرادة… فتهلل وجهه وأشار علي مرة أخرى بأن أنتظر.. ولم تمض إلا بضع دقائق حتى أومأ إلي بأن أملأ مكانا كان لا يزال شاغرا قرب أحد العمال.. كما طلب من مساعد السائق بأن يضيف اسمي إلى لائحة المسافرين.. وعندما سمع باسمي العائلي، سألني إن كنت من عائلة أمعمر.. وعندما أخبرته بأنه ابن عمي.. فقد أعفاني من تأدية ثمن التذكرة وقال لي مازحا.: ـ ولا عليك سوف نرغم أمعمر على أداء التذكرة.. ثم أردف بعد حين.. ـ “حشومة.. أن نأخذ لخلاص من طالب”.. ولكن يجب أن تدرس جيدا.. أليس كذلك ؟.. ونظر إلي نظرة المتفرس.. أو كمن يريد تأكيدا على صحة ما يقول… وفعلا فقد علت بعض الهمهمات تأييدا له…
أما “البطل” الذي كان يجلس بجانبي فقد كرر على مسعي هو الآخر بأنه عيب على جماعة العمال أن تأخذ ثمن التذكرة من طالب..
كانت روائح العطور التي يستعملها أبطالنا عبارة عن باقة روائح طيبة.. منها الفرنسية والإسبانية ومنها “ماء الورد” من صنع مغربي، المعروف بنكهته الدافئة ومنها “ماء الورد” التي أصلها من كولونيا الألمانية.. بالإضافة إلى العطور الشرقية الرخيصة.. فقد كان كل فرد من أصحابنا يتطيب حسب هواه.. وقد أبدى بعضهم حرصه الشديد على تجديد عملية التطيب هذه كل مرة، وذلك بإخراج زجاجة العطر الصغيرة من جيبه ليصب منها بعض القطرات في كفه التي يمسحها بكفه الأخرى ويمررها على وجهه وذقنه وعنقه ويمسح بها صدره.. ثم يمد الزجاجة إلى جاره مقترحا عليه تذوق رائحته… وكمن ينتهز الاستعمال الجذري للطراوة التي يخلفها العطر، فإن البعض الآخر يعمد إلى دفن وجهه وخاصة أنفه بين كفيه ويعقب على ذلك بعملية استنشاق عميقة وكأنه يريد بذلك تخزين روائح هذا اليوم المعطر في جيوب رئتيه ليوم قد تنعدم فيه هذه النعمة …
كنت أحس بنشوة كبيرة وأنا أسافر وسط مجموعة “الزوفريا” وقد تخيلت نفسي مرارا وكأني “زوفري” مثلهم.. و”الزوفريا” هو تحريف بالنطق الدارجي المحلي لكلمة: “ouvriers” أي الشغيلة بالفرنسية.. إلا أن الكلمة الجديدة أصبحت مع مرور الوقت تحمل في طياتها معاني أخرى جرفتها بعيدا عن معناها الأصلي.. وهكذا أصبحت تعني من بين ما تعنيه لدى العامة عندنا، أن الزوفريا هم مجموعة من الأشخاص غالبا ما يكونون غير متزوجين، أو يعيشون مؤقتا بدون عائلاتهم.. وقد فرضت عليهم ظروف الشغل الإقامة الجماعية تحت سقف واحد في شقق ضيقة مثل علب السردين، خصصتها شركة الفحم لغير المتزوجين أو للنازحين الجدد من عمالها، حيث يقيمون ويتناولون طعامهم وينامون في ظروف اكتظاظ خانقة وكل ذلك ليخففوا من فاتورة إقامتهم.. وغالبا ما يكون العيش وسط “الزوفريا” في بداية المشوار المهني للعامل مرحلة لا بد منها، إذ قد يكون من بين النازحين الجدد، من ترك زوجته وأطفاله في البادية ليعيش فترة “تزوفرية” مؤقتة..، ريثما يهيأ عش الحياة الذي يجمعه بعائلته، سواء بالمدينة أو بإحدى الدواوير المجاورة،…
إلا أن المعنى الشائع لكلمة “الزوفريا”هو ما ألصق بهذه المجموعة ـ صدقا كان أو إشاعة ـ من تصرفات يرفضها المجتمع بل ولا يمكن له أن يتعايش معها إلا من باب الاستثناء لهذه المجموعة.. التي يبدو أنها انتصرت على الأعراف والتقاليد بل وهزمتها، فأصبحتْ تسمَعُها بأذان صماء، وتراها بأعين عمياء.. ولا تقيم وزنا لما قد يصدر عن “الزوفريا” وكأنه من باب تحصيل الحاصل.. وهكذا أصبح الحذر ضروريا من تصرفاتهم ولكن مع غض الطرف عنها..
كان السواد الأعظم من ركاب الحافلة من هؤلاء الذين تركوا زوجاتهم وأطفالهم بالقرية رفقة والديهم،.. ومن خلال كلامهم وتصرفاتهم فإن حمى الشوق كانت مرتفعة لديهم، وقد استحوذت على مشاعرهم.. كانوا يريدون لقاء أهلهم وشريكات حياتهم وهم في أحسن الصور.. وروائح عطرهم لا تزداد إلا تضوعا.. حتى أن أحدهم لم يتورع من طرح سؤال على زميله.. بدون حياء ولا حشمة، فرد عليه هو الآخر بدون خجل:
ـ آمحند.. كم مرة ستجامع زوجتك..؟
ـ حتى تتمزق حبال عنقي.. أو حتى أتقيأ الدم الأصفر..
ـ حبال عنقك أم حبال…؟
إنها حالات إنسانية تنم عن ضعف بعض “الزوفريا” الذين سمحوا لأنفسهم للتعبير عن مكنوناتها فنطقت بصوت مرتفع.. ثم إنها قبل هذا وذاك هي اللغة الجريئة الخاصة بـ”الزوفريا”.. ألم أقل أنهم هزموا التقاليد..؟
ويظهر أن الشخص الجالس جنب السائق، قد سمع بعض المقاطع من محادثات زملائه التي كانت تدور في معظمها حول الجنس.. وحتى يغير من هذه الأحاديث الفجة، فقد نادى زميلا له كان يجلس هو الآخر في المقاعد الأمامية وكان سارحا بنظره وكأنه يبحث عن شيء معين من خلال نافذة الحافلة.. وطلب منه أن يعطر الجو بذكر الله.. وكانت المفاجأة التي لم أكن أتصورها…
فبالإضافة إلى الصوت الرائع والجميل والفصيح والقوي لصاحبنا فإنه كان فعلا خزانا من القصائد والأناشيد الدينية.. وهكذا فقد وفر علينا سماع خزعبلات “الزوفريا” التي لا تحترم أي مقام.. وذلك بإتحافنا طوال الطريق بقصائد تلو أخرى وقد أرغم بصوته العذب الشجي، زملاءه بترديد لازمات الأناشيد من خلفه…
كانت عطلة أبطالنا ثلاثة أيام فقط.. وذلك بمناسبة عيد وطني ورغم عددهم الذي كان لا يتعدى عشرين نفرا فإن مرورهم بسوق سيدي لحسن وما قاموا به من رواج.. جعل الساكنة تتذكرهم طويلا…
***

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock