ملف تلكيل عربي عن ” كورونا”: رؤية نقدية

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
ملف تلكيل عربي عن ” كورونا”: رؤية نقدية
بقلم: عبد المجيد بنمسعود
تمهيد:
لم تكن مجلة “تلكيل عربي” بدعا من الدوريات والصحف الورقية أو غير الورقية، عندما خصصت ملفا كاملا عن وباء أو جائحة ” فيروس كورونا المستجد كوفيد19″، فالموضوع، هو موضوع الساعة الذي استأثر باهتمام الجميع، وكان من شأنه – لهوله وحدته، وشدة وقعه وأثره – أن يسيل مدادا غزيرا، وأن يحبر كما هائلا من الصحائف والكتب. فالموضوع واحد، ومدار الكلام والنقاش واحد، والذي يختلف، وهذاهوالأهم، إنما هو التأويلات والفهوم والرؤى التي تحكم معالجة وتحليل كل جهة أو تيار أو اتجاه، لهذا الوباء، الذي اصطلح عليه عالميا بالجائحة، لفداحته وانعكاساته القوية والخطيرة على كل جوانب الحياة والوجود الإنساني.
وسأحاول- بعون الله – أن أقدم فيما يلي قراءة نقدية لمضمون ذلك الملف،في سياق تخصيب النقاش حول هذا الموضوع المصيري، الذي ساهم بشكل فعال، في تحريك المياه الراكدة، وكسر الرتابة، والتحجر الفكري والسلوكي، وزحزحة المسلمات، والقوالب المفروضة على الإنسان، والمجتمعات والأمم، في سياق وضع يتميز بالقسر والإكراه، بل وبالاستبداد والطغيان، في فرض ما يسمى بالأمر الواقع statuquo))، إلى درجة لم يعد فيها متسع إلى مزيد، إلا أن يؤدي ذلك إلى انفجار عظيم، كفيل بتحطيم “كيان” عالمي، اختلت فيه الموازين، وكادت تنعدم فيه مقومات الحياة والاستمرار.
ولم يترك هذا الحدث الفجائي اختيارا لأحد، في أن يفعل أو لا يفعل، بل فرض انخراطا حتميا في الموضوع، لا نتردد في القول بأنه يكتسي صبغة معركة وجودية فاصلة، عنوانها العريض، ” إما أن نكون أو لا نكون”، بما يستلزمه خوض تلك المعركة من عدة متعددة العناصر والأبعاد.
ومما لا شك فيه، أن الذي يؤهل للفوز في هذه المعركة هو امتلاك العدة الكاملة، ذات المصداقية والوثوق، على مستوى الرؤية والتصور من جهة، وعلى مستوى وسائل التصرف والإنجاز من جهة أخرى.
اختارت إدارة تيلكل عربي لملفها عشر شخصيات فكرية وعلمية متعددة المشارب والتوجهات، من تخصص في شؤون الدين، وتخصص في شؤون الثقافة والمسرح، وفي مجالي الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، وفي مجال الفلسفة. ولا شك أن المقصود من ذلك التنوع في المشارب التخصصية والفكرية، هو تسليط الضوء على الظاهرة، من زوايا متنوعة، ومقاربات متعددة، وصولا إلى نوع من التكامل، عبر تشريح لمختلف العناصر والأبعاد ذات الصلة بالموضوع – الظاهرة.
وسأتناول هذا الملف من خلال منهج وصفي تحليلي، يلملم الأشباه والنظائر، ويرصد جوانب التكامل من جهة، ويقف على جوانب الاختلاف والتضارب من جهة أخرى، وصولا إلى نسج رؤية نقدية تستحضر الجوانب الغائبة أو المغيبة، ضمن الأجوبة التي قدمها المشاركون في الملف على أسئلة “تلكيل عربي”، متوخيا في ذلك الشمول والتكامل، وتأكيد طابع الشهود الذي يمثله منظور الإسلام في رؤيته للأمور بشكل عام، ورؤيته لهذه الجائحة التي حاقت بالبشرية في مشارق الأرض ومغاربها، بشكل خاص.
أولا: عرض تركيبي لمضامين الملف
قاسم مشترك: الإقرار بجسامة الحدث وخطورته: لقد أقر جميع المشاركين في الملف بفداحة الخطب وجسامة الموقف، بعموم هذا الوباء سائر الكرة الأرضية، سواء تم ذلك الإقرار تلميحا من خلال السياق، أو تصريحا بتعابير واضحة، فمن واصف لها بكونها” صدمة متعددة الأبعاد(صحية، اجتماعية، اقتصادية)، ( العربي الجعيدي)، أو ” صدمة من الصدمات الكبرى التي تلقاها الوعي البشري (…) تتميز بالشمولية والكلية والفجائية وسرعة الانتقال”( محمد سبيلا) إلى معتبر إياها فاصلا بين عصرين: ما قبل كورونا، وما بعد كورونا، ( محمد الطوزي، وعبد الكريم برشيد)، إلى وصفه بأنه “زلزال عالمي”( مصطفى بنحمزة).فجميع هؤلاء إذن يستشعرون هول جائحة كورونا، وما تلوح به من نذر وتداعيات شديدة الوطأة على حياة المجتمعات الإنسانية بشكل عام، ومسار المجتمع المغربي بشكل خاص. كما أنهم يستخلصون بعض الدروس والعبر البليغة التي من شأن الجائحة أن تعود بها على المجتمع المغربي، في مختلف مستوياته، انطلاقا من مستوى اكتساب وعي جديد بالواقع وإحساس بتحدياته، مرورا بشحذ مهارة حل المشكلات،وتدبير الأزمات، وكذا تصحيح المفاهيم الخاطئة، والتنبيه على الاختلالات والثغرات.
2 – آثار الجائحة من منظور المشاركين في الملف:
2 – 1 – على مستوى اكتساب وعي جديد بالواقع وقضاياه:( واقع الاقتصاد بالخصوص):
وقد عكس تحليل أحد المشاركين وعيا بضرورة طرح “أسئلة عميقة فيما يخص النظر للمستقبل، وحول المنطلقات الجديدة التي ينبغي الارتكاز عليها (…) فيما يتعلق بنموذج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدنا، وكذلك لتحديد بعض الطموحات، وبعض الغايات، البعيدة والقريبة المدى، للخروج من هذه الأزمة ، ( كما أن) هذه الأزمة توضح أن هناك تزايدا في الوعي حول بعض السلبيات في نمط النمو الراهن، وطبعا نمط النمو في المغرب” (العربي الجعيدي)، كما عكس تحليل متدخل آخر أثر الأزمة في رد “الاعتبار لأدوار الدولة، (…) باعتبار أن أدوار الدولة قد تراجعت قليلا ” بفعل تطبيق وصفات المؤسسة المالية الدولية، القائمة على التصور الليبرالي المتشدد، الذي يقضي بتقليص تدخل الدولة ” خاصة في المجالات الحيوية ذات الطبيعة الاجتماعية، والتي تمس شرائح واسعة من المواطنين، من قبيل الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية (…) ( ومن ثم) ضرورة بناء نسيج اقتصادي وطني قائم على السيادة الوطنية، والأمن والاستقلالية فيما يتعلق بالقطاعات الاستراتيجية، وهي أساسا الصحة والتربية، وبعض القطاعات الاقتصادية التي لها علاقة بالأمن الغذائي ” مشيرا إلى أن هذا لا يتعارض بتاتا مع انفتاح موزون على العالم.( نور الدين العوفي)، ويؤكد هذا المنحى( محمد الطوزي) (عالم اجتماع) الذي يرى ضرورة استثناء جملة مقومات من الخضوع لمنطق السوق، من قبيل الماء والهواء، والصحة والمدرسة.
ويخلص المهدي فقير( خبير اقتصادي،ومتخصص في في استراتيجيات تدبير المخاطر) إلى توصيف المنظومة الاقتصادية المغربية بكون” أغلب فاعليها صنعوا مجدهم المالي من تحين الفرص بهدف الربح السريع، (… ) و” أن أكبر الأخطاء، أن لا أحد اليوم يتوفر على سيناريو لتدبير هذه الأزمة، أوكيفية التعامل والعيش( التعايش) معها، لأن الاقتصاد المغربي كان يرفض دائما اختصاصا اسمه” تدبير المخاطر”.
2 – 2 على مستوى النظر إلى موضوع التربية والتكوين: ( أو صياغة الشاكلة)
يلح الدكتور العربي الجعيدي في خصوص هذا الموضوع على ضرورة” التفكير في ماهيات الغايات البعيدة التي ينبغي أن يكون حولها إجماع لتجاوز هذه الأزمة، أولا: فيما يخص الإشكالية الأولى الأساسية، وهي تنمية قدرات الإنسان، سواء فيما يخص الجانب الصحي، أو فيما يخص الجانب التكويني، أي نتحدث عن إنسان قادر على مواجهة بعض الأزمات في ظرفية ملائمة” ويقول في موضع آخر:” وتتطلب منا هذه الأزمة كذلك، النظر فيما يخص القيم الاجتماعية التي ينبغي أن يرتكز عليها تصورنا لمستقبلنا، وهي قيم العمل والإنتاج، وقيم التضامن، وهذه قيم أساسية من خلال تدبير آليات الاقتصاد، وطريقة تدبير آليات المجتمع، بصفة عامة من طرف الدولة”.
ويقول العلامة مصطفى بنحمزة:” لا بد أن نفكر من جديد في إعداد المواطن لمثل هذه اللحظات عن طريق التربية. أزلنا التربية الوطنية وصرنا نتحدث على أن الإنسان يفعل ما يشاء. الآن عرفنا معنى الانضباط وعرفنا معنى الاحترام، وعرفنا معنى القوانين، وعرفنا أشياء كثيرة، والآن إذا تركنا الناس يفعلون ما يشاءون، فمعنى ذلك أننا نسمح لهم بالعودة إلى حالات الاستهتار، فنحن كنا نغذي في الإنسان أنه فرد، ولم نكن نتكلم عن الجماعة، ونتحدث عن الحريات الفردية. والآن تبين أن الحريات الفردية لا يمكن أن تنقذ مجتمعا كهذا”.
-2 – 3 – دروس أخرى مستفادة:
من الدروس العامة التي جرى استخلاصها من قبل المشاركين في ملف كورونا، أن ” هذا الوباء تمكن من كسر غرور الإنسان، بسبب ما حصل له من تقدم تقني”( محمد سبيلا)(فيلسوف)، وأن ” كورونا أزالت الغطاء عن عيوب البشرية ونقائصها، وطغيان النفس البشرية التي اعتقدت أنها امتلكت العالم والسلطة المطلقة على الحياة والموت.” كما عبرت عن ذلك (أسماء المرابط) ( باحثة في الدراسات الإسلامية)، كما أن من أهم تلك الدروس، في منظور نفس الباحثة، إشعار البشر بأنهم” متساوون، فهذا الوباء لم يميز بين الغني والفقير، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين البلد الديمقراطي والاستبدادي، ولا بين المسيحي واليهودي، ولا المسلم واللاديني، كلنا نعيش نفس الهول، نفس الحجر المادي والنفسي”، وأن هذا الوباء، ولد ” الشعور بالانتماء إلى إنسانية واحدة، لها أهداف ومصلحة ومصير مشترك” .
ومن هذه الدروس في منظور العلامة مصطفى بنحمزة( فقيه ومفكر)، تنبيه الجائحة إلى “أهمية العلم والبحث العلمي، و(بروز) قيمة الطبيب والإطار الصحي، وضرورة تجهيز المستشفيات، وكذا أهمية المراكز العلمية”.
وانتهى أحد المشاركين( محمد الناجي)( باحث أنثروبولوجي)، إلى استنتاج درس غريب، ظهر له أنه من إفرازات الجائحة وما صاحبها من ملابسات، يقول:” إذا أخذنا الأمر من الزاوية الخاصة للحداثة، وصول كوفيد 19، ليس له فقط آثار سلبية في المغرب. فمنذ إقرار الحجر الصحي وحالة الطوارئ الصحية، ليست المساجد فارغة، بل مغلقة بالقوة. فما معنى هذا؟ وهل يحمل هذا التعليق للزمن الديني، مهما كان مؤقتا، مشروعا كاملا لمجتمع علماني؟”
ويرى الدكتور عبد الكريم برشيد( باحث وكاتب مسرحي)، أن كورونا أكدت لنا جليا ” أننا جميعا في مركب واحد، وأن مصيرنا واحد، وربنا واحد. ومن الدروس التي المستفادة من هذا الوباء، ، تقوية حاسة التضامن والتكافل في المجتمع، إذ لا معنى أن يذهب أحدنا للسوق، ويأخذ كل شيء، ويترك جاره بلاشيء”
ويؤكد الدكتور المهدي الفقير(خبير اقتصادي ومتخصص في استراتيجية تدبير المخاط)، على أنه لا بدمن استخلاص العبر من هذه الأزمة، وإعادة النظر في محددات العمل الاقتصادي، لتفادي الصدمات، ويوضح” المال ليس هو الهدف الأسمى، يجب على النسيج المقاولاتي أن يتوفر على قدرة تطويرية واستشرافية، وقابلية كبيرة للتأقلم ” ويختم كلامه بقوله:” ما لا أتمناه، أن يستغل البعض هذه الأزمة، وأن يرقص على أطلالها، سواء كانوا فاعلين اقتصاديين، أو جمعويين أو سياسيين”.
3 – مدى حضور الرؤية السوسيولوجية:
إن من شأن النظر السوسيولوجي في بنية مجتمع معين، أن يستخرج آليات انبنائه واشتغاله، وأن يقف على الأسس والقواعد التي يقوم عليها ذلك المجتمع، وعلى طبيعة العلاقات التي تحكم أطرافه ومكوناته، ونوعية القوى التي توجه حركته وتوجهاته، ومنظومة القيم التي تؤطر دوافع وسلوك الأفراد والجماعات، ومسار المجتمع بشكل عام. وإن أي كلام عن أي مجتمع، وإصدارأي حكم على مساره، أو توقع لصيرورته ومآلا ته ، إنما يكون بمثابة كلام فارغ من المعنى، وخال من أية قيمة علمية، في ظل غياب رؤية سوسيولوجية واضحة، فما مدى حضور الرؤية السوسيولوجية في ملف كورونا الذي نحن بصدد تحليله ومناقشته؟
يقول الدكتور نورالدين العوفي بأن ” الوباء أبان عن تماسك المجتمع (الأسرة) وأن القضية الوطنية هي الأساس”. ويقول الدكتور محمد الطوزي، بأن” العلاقات الأفقية هي التي تعطينا إمكانية التحمل وإمكانية المواجهة، وليس يتعلق الأمر بالتآزر، بل بقوة تضامنية وعصبيات صغيرة، هذا كان يعتبر تأخرا، ولكن في ظل هذه الطامة، يعطي قدرات كبرى للناس.” ثم يتحدث بعد ذلك عن ميزة يسميها ميزة المرونة والخفة التي تطبع المجتمع المغربي، يقول:” وليس منطلق ذلك خفة الدولة، لأن الدولة بمفهومها التقني، ليست لها تلك المرونة أو الخفة، لأن المجتمع هو الذي يتميز بتلك الخفة، والناس يقضون أيامهم في تلك الخفة من أجل البريكولاج، وهذا البريكولاج هو القوة الخلاقة على المستوى اليومي.
” ويعتبر أن هذا كله يطرح علينا عدة أسئلة حول ماهي مضامين القوة ومضامين الخلل في المجتمع الآن، وأين هي نقاط القوة التي تمكننا من مواجهة هذا الوباء؟ وهذا يطرح تساؤلات كونية، لأننا عندما نتكلم عن إمكانياتنا على مستوى البنية الشخصية المغربية، في تعاملها مع شظف العيش، ومع قلة الوسائل المتعود عليها، مع حتى غياب الدولة في عدة مجالات، تعطي إلى حد ما ومرحليا شيئا من المناعة، وهذا ما يغذي ما يمكن الدولة من تجاوز هذا الأمر.”
4 – مدى حضور الشمول الفكري والفلسفي:
من المعلوم من مقتضيات الوجود الإنساني بالضرورة، أن وجود أي إنسان، أو أي مجتمع على هذه الأرض، لا يمكن أن يكون له تميز في دنيا الناس، ولا شخصية يعرف بها بين الأقران، الذين يدخل معهم في علاقة تفاعل أو تدافع، أو تعارف أو تناكر، بحسب ما تقتضيه موازين القوى، أو ما تقتضيه الشروط القائمة المساعدة على اعتماد هذا النوع من العلاقة أو ذاك، أقول، لا يمكن أن يكون له ذلك التميز ولا تلك الشخصية، إلا أن يكون له ما يقوم في حياته العامة مقام البوصلة أو خارطة الطريق،بل وحتى مقام الخريطة الجينية التي تحمل خصائصه ومميزاته، التي تمثل عبقريته الخاصة، التي بها يساهم في تخصيب الحياة الإنسانية في نطاقها الواسع العريض.
والسؤال المطروح في هذه النقطة يتعلق بمدى حضور ملامح وأفكار،تعكس وجود رؤية فلسفية للوجود، يمكن أن ننظر في ضوئها إلى جائحة كورونا، بطريقة يطبعها العمق والأصالة، والتميز، في عالم لا حظ فيه للمنبتين والهائمين على وجوههم في صحراء الحياة، دون بوصلة ولا خريطة طريق، أو للمتسكعين، ممن يعيشون على فضلات وفتات موائد إيديولوجيات الآخرين.
إن عملية جرد لمجمل مداخلات الأساتذة والخبراء الذين استكتبتهم مجلة تلكيل عربي في ضوء هذا السؤال، تكشف عن عناصر وتصورات هنا وهناك تتخلل مداخلات هؤلاء، بنسب متفاوتة، تتحكم فيها طبيعة التخصص الذي تمثله كل مداخلة، ومن ثم فلا نستغرب أن يكون حضور السؤال الفلسفي، أو حضور الرؤية الفلسفية، أكثر عمقا ودقة عند البعض، منه عند البعض الآخر، كما سيتبين من خلال عملية الجرد.
أول طرح ذي طابع فلسفي يطالعنا من خلال فحص مداخلات الملف، نجده عند الدكتور الطوزي، وهو طرح يرتبط بطبيعة تخصصه، باعتباره باحثا في مجال علم الاجتماع. يتبلور ذلك الطرح عنده من خلال تعيينه لبعض القضايا، لتكون محط مساءلة، وهي القضايا التالية:
1 – تقسيم العمل على المستوى الكوني.
2 – تموقع الدولة الوطنية داخل المنظومة العالمية.
3 – قضية الأهمية القصوى للرابط الاجتماعي ( علاقة الحاكم بالمحكوم) في إطار رعاية وليس علاقة رعوية، ( لأن المسألة الأساسية هي أن الخدمات الاجتماعية هي التي تؤسس هذه العلاقة، وليست الإيديولوجيات، أو أي شيء آخر)
4 – ( الحاجيات الأساسية لا يحكمها منطق السوق)، ” لأنها تدخل في خانة الملكية المشتركة).
ويعقب الطوزي على هذه الأسئلة بقوله:” هذه التساؤلات الكبرى فلسفية أكثر منها شيء آخر”
ثم يقول في موضع آخر من مداخلته، في سياق تساؤله عن مواطن القوة ومواطن الضعف في الشخصية المغربية” لكن لا يجب أن ننسى بأن تصورنا لعلاقتنا مع الطبيعة والكون والعالم، هو موضوع مساءلة، ولا بد من الدخول بجدية في نقاش كبير حول النموذج، وحول النموذج الجديد للتنمية”
ثم يطالعنا بعد ذلك تصور المفكر محمد سبيلا المشتغل بالفكر الفلسفي على مدى عقود مديدة. فبعد أن أثار نقطة الارتباك والحيرة اللتين خلفهما الظهور المفاجئ لفيروس كورونا المستجد، على مستوى تحديد مصدره ومنشئه، حيث تضاربت الأقوال بين قائل ببشرية المصدر بكلتا احتماليها: العلمي البحثي، والتآمري الصراعي، وقائل بربطه بابتلاء رباني، متمثل في تخويف أو عقوبة، يدعو – باتزان الفيلسوف وهدوئه العلمي، الذي يعطي لكل احتمال حظه في الحضور- إلى ضرورة التحلي” بقدر من الحذرالإبستمولوجي في التشخيص والتفسير والتأويل على مستوى الفهم” ويحذر من التعجل في إصدار الحكم على النازلة، ” من مثل القول بالتفوق النهائي للحضارة الشرقية ، وسقوط الحضارة الغربية، وتفكك الاتحاد الأوروبي، وعودة المنظورات اللاعقلانية والصوفية، وهيمنة منظورات أكبر وأعظم للعدمية ومشاعر اليأس والكآبة الكونية” ثم يختم بقوله:” وبعبارة أخرى، فالمطلوب من الفئات المثقفة هو أن تستقرئ هذه التحولات التاريخية لتستخرج خلاصاتها وتقرأ دلالاتها، قبل أن تفرض عليها دروسا وإسقاطات قبلية.”
وختمت الدكتورة أسماء لمرابط مداخلتها بما يكتسي طابعا تقريريا ذا ملمح فلسفي، من حيث صيغته، بغض النظر عن إمكانه الواقعي. تقول:” حان الأوان أن ندرك أنه لا مفر من نموذج حضاري إنساني جديد، تكون فيه الأولوية للتضامن والرحمة والائتلاف بين جميع البشر، فرب ضارة نافعة”
وأكد الكاتب المسرحي الدكتور عبد الكريم برشيد، على” أننا بحاجة إلى طهارة فكرية، وإلى عالم أكثر أخلاقا وأكثر جمالا، وعليه فالجمال جمال، والحق حق”.
ثانيا: رؤية نقدية لملف كورونا في مجلة تلكيل عربي:
ذكرت في النقطة الأولى المتعلقة بالانطباع الذي خلفه نزول كرونا بالناس لدى المشاركين في الملف، أن هذا الانطباع كان هائلا وقوي الوقع على سائر هؤلاء، فهو صدمة وزلزال أدى إلى ما أدى إليه من كشف العيوب والاختلالات، وحفز الهمم لإعادة الحسابات، من أجل سد الخروق وإصلاح الخلل. والسؤال المطروح هنا بجدارة، هو هل يصح في أذهان العقلاء، وعرف الحكماء، أن تنام الأمم والشعوب ملء جفونها، وتغط في عميق سباتها، ثم لا تفيق إلا على أصوات النذر والفواجع وهي تملأ ساحاتها وتقض مضاجعها، وصور الضحايا والأشلاء وهي تملأ مدنها وقراها؟
إن قراءة تاريخ الشعوب والحضارات يفيدنا أن هذا الأمر يمثل سنة ماضية فيها على مر الأزمان، غيرأن الاختلاف بين تلك الشعوب، هو الاختلاف بين من يسارع إلى الاستجابة والنهوض، ويحفظ الدروس عن ظهر قلب، ويواصل المسير بهمة عالية، من أجل استدراك بعض ما فات، وتجنب ما كان قد حصل من آفات، وبين من ينهار أمام الصدمات، وتخور قواه، ويستسلم لمصيره، ويدخل في دورة مظلمة لاجترار آلامه وأنينه، بعد إحصاء خسائره ودفن قتلاه، وهذا لعمري عنوان التحجر والجمود، الذي يحكم على الشعب أو الأمة إذا ما وقع فيها ، بالتلاشي والاندثار، وبالموت الحضاري الذي يجعلها في ذمة التاريخ.
وفي حال المملكة المغربية، تشهد القرائن والأحوال، أن الأمة عبرت قيادة وشعبا عن قدر محمود من اليقظة والتجنيد في مواجهة هذا المصاب، مصاب كورونا المستجد، كان خليقا أن يمتص الصدمة إلى حد بعيد، عن طريق المسارعة إلى الاستجابة التي كانت سببا في تقليل الخسائر والضحايا، بعد لطف الله جل جلاله. فقد مثل التضامن وتضافر الجهود في صفوف الشعب المغربي، صورة للتلاحم، وتداعي أعضاء الجسد بالسهر والحمى بتعبير حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبرز في هذه الصورة المشرقة والمشرفة من تاريخ المغرب، فئات مثلت البطولة والشهامة في أعمق تجلياتها ومعانيها، إنها فئات الأطباء والممرضين، بجميع رتبهم وتخصصاتهم، وعلماء المختبرات، وتقنيي التحاليل والاختبارات،وكل من لهم علاقة بتدبير الشأن الصحي في البلاد. فقد أبلى هؤلاء البلاء الحسن، وأعطوا المثل في التضحية ونكران الذات، وكانوا حقا، أشبه ما يكونون بكتيبة الحرب الأمامية التي تقتحم الأهوال والنيران، وتحمل جراحها في أكفها، وتمضي قدما، للبلوغ بالشعب إلى بر الأمان.
وإنها أيضا فئات رجال الأمن بجميع رتبهم ومواقعهم، ورجال السلطة وأعوانهم بجميع مستوياتهم الذين مثلوا الدرع الواقية التي تذود عن حمى جماهير الشعب كل مكروه، وتسهر على مراقبة المخالفات والتفلتات.
لن ينكر كل ذلك إلا مكابر جاحد. غير أن الذي ينبغي الإلحاح عليه في هذا الظرف العصيب، والمنعطف الخطير، هو سؤال المداومة والاستمرار، واستصحاب العبر والدروس، في إطار استراتيجية بعيدة المدى، واضحة المعالم والأهداف، تتجاوز عقلية العمل بالمنهج الكارثي في تدبير الدواهي والخطوب، وتحافظ على اليقظة الدائمة، في سياق مقاربة لشحذ الهمم، وتطوير المهارات، واستثمار المواهب والطاقات، لتسير سفينة المغرب قوية ثابتة الخطى في خضم التيارات والأمواج.
وفيما يخص آراء ومواقف المشاركين المتعلقة بمواطن الخلل في عمل جهاز الاقتصاد، وفي بنيته معا، ساهمت جائحة كورونا في الإبصار الحاد، والكشف الدقيق عن تهافت النهج الليبرالي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لما يتسم به من شراسة وأنانية واستئثار، تضرب عرض الحائط بكل مصلحة عامة للمجموع، لأن قصارى مطالب المؤثرين لهذا النهج غير السديد، إنما هو مراكمة الأرباح الخاصة، ورفع أسهمهم في بورصة القيم الاقتصادية، وتحسين رتبهم في لائحة المترفين، ولو كان ذلك على السلم الاجتماعي العام.
إن الواقع المرير، ينطق بفداحة الخسارة التي يتكبدها المجتمع، بتعريض المجالات الاجتماعية لافتراس الآلة الرأسمالية البالغة الشراسة والجشع.
حول منظور التربية والتكوين: تحدث الأساتذة في هذه النقطة، كما أسلفت، عن سؤال التربية والتكوين، وعن ضرورة تنمية قدرات الإنسان، وعن طبيعة القيم الاجتماعية والتربوية التي ينبغي أن يرتكز عليها تصورنا لمجتمعنا، وعن نوعية الإنسان القادر على مواجهة الأزمات، والتصدي للملمات.
إن موضوع التربية والتكوين من الخطورة بمكان، لأن التربية هي مصنع الرجال والنساء، وهي المحضن الذي تتخلق فيه الجينات، وتتشكل الممكنات، وهو أمر لا ينفع فيه تلفيق ولا ترقيع، بل يحتاج إلى إبداع رفيع، يؤخذ فيه بعين الاعتبار شخصية الأمة وميراثها الحضاري، ورصيدها التاريخي العريق، والأصل في كل ذلك تطبيق واستلهام ما استخرجه العلماء المختصون الأثبات، من تعاليم الكتاب والسنة، وما يرشدان إليه في أمر بناء الإنسان القوي الأمين، الذي لا يؤتى الإسلام من قبله. فالأقوياء الأمناء الذين تقوم النهضة على أكتافهم هم الذين يحتاج إليهم الوطن، في أوقات الحرب والسلم، وهم الذين يسلكون به إلى بر الأمان. وقد آن الأوان، وقد جاءت كورونا على قدر لتجلو الصدأ، للنظر بإمعان، إلى ما به تزكية الإنسان، لتزكو به الأوطان.
إن التربية المنكوسة القائمة على القيم الليبرالية المائعة، هي التي تغذي جميع قطاعات الحياة بنماذج بشرية مهزوزة، تتميز بالرخاوة والتذبذب، وفقدان روح المسئولية، والنزوع إلى التطاول على المقدسات، وتنطوي على استعداد للتفريط في مقدرات الوطن. تلك القيم المعوجة هي التي لمح إليها العلامة مصطفى بنحمزة عندما قال: ” كنا نغذي في الإنسان أنه فرد، ولم نكن نتكلم عن الجماعة، ونتحدث عن الحريات الفردية، والآن تبين أن الحريات الفردية لا يمكن أن تنقذ مجتمعا كهذا”.
حول بعض الدروس المستفادة: لقد أثار استغرابي في هذه النقطة خرجة الدكتور محمد الناجي التي عبر فيها عن موقف شاذ من الحدث، وتوظيفه بطريقة مكيافيلية، وأعيد نقل مقالته هنا بقصد تحليل أبعادها، يقول:” :” إذا أخذنا الأمر من الزاوية الخاصة للحداثة، وصول كوفيد 19، ليس له فقط آثار سلبية في المغرب. فمنذ إقرار الحجر الصحي وحالة الطوارئ الصحية، ليست المساجد فارغة، بل مغلقة بالقوة. فما معنى هذا؟ وهل يحمل هذا التعليق للزمن الديني، مهما كان مؤقتا، مشروعا كاملا لمجتمع علماني؟”
نستنتج من هذا الكلام الغريب، والمثير للقرف، أن إغلاق المساجد، أمر إيجابي، ليس باعتباره داخلا في خطة الحجر الصحي، من أجل تفادي انتشار فيروس كورونا، ولكن لأنه يعتبر بالنسبة لصاحب هذا الموقف، مساعدا على التمهيد لإقامة وتجسيد المشروع العلماني الذي يعشش في خياله. إن مثل هذا الكلام يحار الإنسان أين يصنفه، هل في خانة الانتهازية، أم في خانة الشماتة، أم في خانة الاستهتار والاستخفاف بالعقول، غير أن الأكيد الذي لا غبار عليه، أنه ينتمي لبؤس التفكير، فهو يمثل بلا أدنى شك، صورة من صور الانحطاط في التفكير والاستنتاج، إنه بؤس” المثقف” المنبت عن مجتمعه، الجاهل بطبيعته وحقائقه، والذي صب عقله وحواسه في قوالب جامدة، لا تترك له أدنى فرصة للتفكير السليم، الذي يحترم المنطق، ويحترم من يتوجه إليهم من الناس بالخطاب، فهو على العكس من ذلك يخترق الحقائق، ويدوس على المسلمات، ويغمض عينيه عن كل ذلك في هيئة بائسة تثير الإشفاق، عن تكون مثل هذه النماذج في بيئة مسلمة.
ونحن نقول للسيد محمد الناجي، بربك من أين تأتى لك أن ترتب النتيجة الكبيرة المتمثلة في ” مشروع كامل للمجتمع العلماني، على واقعة غلق المساجد بسبب وباء كورونا، ؟
إن طرحك لهذه القضية بهذا الشكل الغريب، وبهذا ” المنطق” العجيب، يعد مثالا صارخا لسقوط الفكر عندما يخضع صاحبه بشكل مطلق لهوى النفس وخيالاتها، وأن الذين يمثلون هذه الطريقة في التفكير، وهذا النهج في التفكير، ينزلون إلى أسفل سافلين في ميزان الفكر السديد.
والدليل القاطع على تهافت فكر ” الناجي” وموقفه، أن الأربعة الأسطر التي سجل فيها ذلك الموقف، احتوت على أخطاء ذات طابع منطقي، وأخطاء تتعلق بوصف الواقع، هذا فضلا عن كون تلك الأسطر، قد نضحت بكره سافر للمساجد، وبالتبع لأهل المساجد، والسبب بكل بساطة، لأن كل ذلك يعتبر عقبة في وجه تجسيد الحلم العلماني.
وأما الخطأ المنطقي فهو الذي ذكرته آنفا، وأما الخطأ المتعلق بوصف الواقع، فهو حكمه على غلق المساجد بأنه “تعليق للزمن الديني” فهذه العبارة خالية من كل معنى بتعبير المناطقة الوضعيين، لأنه ليس لها ما يصدقها في الواقع، فمن أين فهم ” الناجي” أن عملية غلق المساجد تعتبر ” تعليقا للزمن الديني”؟ فهل ” الزمن الديني” محصور في المساجد حتى يعلق بغلقها؟ وهل بلغك أيها ” الناجي” أن المسلمين في المغرب طووا سجاداتهم بمجرد غلق المساجد، ولمن يعلن الأذان من مناراتها إذن؟
وإنك أيها” الناجي” قد استعملت تعبيرا عنيفا في الأربعة أسطر التي ضمنتها حكمك القاسي الذي خالفت به الواقع، وجانبت أصول اللياقة الأدبية مع شعب مسلم متعلق بمساجده، ويتحرق شوقا للعودة إليها بعد أن يرفع الله عز وجل عنه هذا البلاء بإذنه وقوته، ولطفه ورحمته ، فهو سبحانه وتعالى لطيف بعباده، رحيم بهم. لقد قلت:” ليست المساجد فارغة، بل مغلقة بالقوة”، فهل كان المصلون في المساجد حين صدور قرار الحجر الصحي، فأخرجوا منها قسرا، بعد شد وجذب مع المخولين بتدبير الشأن الديني في البلد؟
أم أن الذي حصل، هو أن المصلين تلقوا القرار ونفذوه بعد تفهم مقاصده، عن طواعية، على أمل العودة السعيدة إليها؟ لأن دينهم علمهم الأخذ بالأسباب، والتعامل مع الظواهر بوعي عقلي، يأخذ بعين الاعتبار مقاصد الشرع التي تؤطر حياة الإنسان في هذه الحياة الدنيا.
استمع أيها ” الناجي” – وأنا أدعو لك أن تسلك مسالك النجاة – إلى الشاعر الكبير حسن الأمراني وهو يعبر بصدق وصفاء، عن هذه اللحظة الوجدانية الرهيبة، وهذا الشعور السامي الشفاف، الذي يعيشه المسلم في ظل هذا الموقف الاضطراري الذي هو من أقدار الله التي يتلقاها بصبر واحتساب:
لقد تناهى إلى سمع الشاعر تهليل مؤذن المسجد المجاور له، قبل التأذين لصلاة الصبح، فأفعم قلبه بذلك الصوت الجميل وهو يذكر الله، ويجأر له بالدعاء، فما كان منه إلا أن تفتقت قريحته عن قصيدة جميلة أسوقها إليك ، وأهديها إليك في هذه الأيام المباركة، و الشعب المغربي الأبي، يتطلع بشوق إلى طلعة شهر رمضان الكريم المهيب:
هلل لربك يا إمام
هلل فإن الروح ظام
هلل إذا غفل الأنام
هلل فذكر الله أنس الصب
في جوف الظلام
هلل بربك يا إمام
هلل فذكر الله بلسم مستهام
ومتيم شغفته أشجان الحمام
إن لم تجبك جسوم أهل العشق،
رواد المساجد للسجود وللقيام
لا تيأسن فإن روح العاشقين لها ضرام
ولتأتينك في خشوع
فوق أجنحة الغمام
اصدح بذكر الله تنفطر القلوب
وأعين السارين من شغف سجام
ليست تبالي إن جللها السقام
وسراج قلبي لا عدمت ضياءه،
يدعو لروحي في الصلاة وفي الصيام
فترف روحي في السموات العلى
ويخر قلبي ساجدا حبا لمن برأ الأنام
هلل فديتك يا إمام
هلل فديتك يا إمام
وأختم التعليق على ما أورده الكتاب بشأن الدروس المستفادة بما أورده الكاتب المسرحي الدكتور عبد الكريم برشيد، حين قال: ” أن كورونا أكدت لنا جليا ” أننا جميعا في مركب واحد، وأن مصيرنا واحد، وربنا واحد” ، وهذا يحيلنا إلى حديث السفينة الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ” عن النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ رضي اللَّه عنهما، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا رواهُ البخاري.
إن هذا الحديث العظيم والرائع في دلالاته وتوجيهه، وهداه المنهاجي العميق، خليق عند تمثله وتطبيقه، أن يقي العالم المزالق والمهالك، ويرشده إلى أفضل وآمن المسالك.
وإن ما يقع في العالم على مستوى جميع الدوائر والمستويات، مرده إلى أن سفينته تتعرض للخروق بشكل رهيب، تحت صمت من يستقلون هذه السفينة، وعدم إنكارهم لما يقع، فما يقع للأمم والشعوب التي توجد على ظهر هذه السفينة من مظالم ومآسي وويلات، تقشعر له الأبدان، ويهتز له عرش الرحمن، وإن مصير هذه السفينة الهائلة في إبحارها عبر المحيطات والخلجان، لرهين بتصرفات ومواقف من هم على ظهرها من الركاب، بشكل عام، وبتصرف الربابنة الذين يمسكون بعجلة القيادة بشكل خاص.
وإن ما يجري في الكرة الأرضية من اضطراب، ومن تخبط يشمل قاصيها ودانيها، بسبب اكتساح فيروس كورونا لها، ليسائل كل الشعوب عن مدى مساهمتها في حدوث هذا الذي حدث، ويضع الجميع في قفص الاتهام، ففي هذه الحالة، كل واحد من ركاب السفينة على مستوى الأفراد، أو الشعوب أو الأمم، أو الحكام أو المحكومين، أو القوى المتنفذة المتسلطة، أو القوى الخانعة المستسلمة، كل أولئك مسئولون عما يجري، كل بحسب درجته وموقعه في سفينة العالم. ولا أحد معفى على الإطلاق.
لقد حصل جدل واسع في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، في مختلف أوساطها وهيئاتها، وعلى جميع مستوياتها، حول ما إذا كان هذا البلاء الذي حل بالإنسانية، أبيضها وأسودها وأحمرها وأصفرها، مسلميها وكافريها، عقابا من الله عز وجل أو تخويفا وترهيبا، على سبيل الإنذار والتأديب. وإن القرآن كتاب الله عز وجل ليحسم هذه المسألة لمن له عقل يعي ويفهم ما أورده الله عز وجل من آيات تؤكد حصول هذا الأمر عبر العصور والأزمان، وفي مختلف الأقوام. ونورد بعض ما جاء من ذلك في الكتاب العزيز: يقول الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ( الأنعام: 65). وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ( الأعراف96)، ويقول سبحانه وتعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم : 41). وقال تعالى:” وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (الإسراء: 59).
قال القرطبي: فيه خمسة أقوال، ومنها: أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي. قال ابن كثير: قال قتادة إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكّرون ويرجعون. ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه. وهكذا رُوي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات، فقال عمر: أحدثتم! والله لئن عادت لأقعلن ولأفعلن”
فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم وهم خير خلق الله بعد رسوله الأكرم سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، يفهمون عن الله ما يقع لهم باعتباره تأديبا، فكيف بمن هم دونهم على مسافة يستحيل قياسها، وهل هناك مجال للمقارنة بين ما أحدثه الناس على عهد عمر بن الخطاب، وعبدالله ابن مسعود، رضي الله عنهما، وما أحدثه الناس في هذا الزمان؟
وإذا تدبرنا الآية 96 من سورة الأعراف، مثلا، ألفيناها تمثل قاعدة كبرى فيما نحن بصدد الحديث عنه، فهي تسلط الضوء على قضيتين اثنتين: قضية التنمية وشرطها في المنظور الإسلامي، فهي تحصل في ظل توفر قيمة التقوى، وليست تنعدم أو تمحق فقط عند انعدامها، ولكن انعدامها يستتبع بالإضافة إلى ذلك أخذا من العزيز الحكيم.
مدى حضور الرؤية السوسيولوجية: في هذه النقطة لا بد أن نشير إلى أهمية العمل أو البحث السوسيولوجي، وحق لن في هذا الإطار، أن نتساءل عما تم تجميعه ومراكمته على مستوى دراسة العلاقات الأفقية التي تحدث عنها الدكتور الطوزي عالم الاجتماع، فقد طرح السؤال عن مواطن القوة ومواطن الضعف وأين نقاط القوة التي تمكن من مواجهةالوباء، ( والخروج من مخلفاته بسلام). وهنا لا بد أن نعبر عن اعتقادنا بأن الجواب الشافي والكافي عن هذا التساؤل، يكون نتيجة بحث واستقصاء، داخل بنيات العلاقات التي تؤلف نسيج المجتمع المغربي، بجميع شرائحه وفئاته، ويكون عبر الكشف عن نسق القيم التي تشكل مرتكزات سلوكه وتصرفاته.
تعليق على ” مدى حضور الشمول الفكري والفلسفي: لقد طرح الدكتور الطوزي أسئلة تؤلف إشكالية شائكة يتطلب الجواب الشافي و الصحيح عنها جهدا فكريا كبيرا وبحثا مضنيا ، ينفذ إلى أعماق العلاقات المتشابكة، ، لينتهي إلى رسم خطة مناسبة خليقة بتحديد ذلك الموقع( موقع الدولة الوطنيةداخل المنظومة العالمية) ونفس الأمر بالنسبة لعلاقة الحاكم بالمحكوم، وكذلك تقسيم العمل على المستوى الكوني، وتحرير الحاجات الأساسية من قبضة السوق ومضارباته الرهيبة.
ولقد ختم الدكتور محمد الطوزي أسئلته الفرعية بسؤال مركزي عن أمر يمثل قطب الرحى ومربط الفرس، فيما يتعلق بتحديد ملامح النموذج المجتمعي، والتنموي، الذي ينبغي إقراره وإرساء دعائمه في المجتمع المغربي.
غير أن هذا السؤال الذي طرحه الدكتور محمد الطوزي، يحتاج إلى تدقيق أكبر، لاستكمال عناصره، فهو تحدث عن تصور علاقاتنا مع الطبيعة والكون والعالم، وهذه الألفاظ تشكل عنصرا واحدا ليس إلا، فيكون السؤال بحاجة إلى احتوائه على عناصر أخرى ذات حيوية وأهمية كبرى في تحديدالتصور الفلسفي العام، ويتعلق الأمر هنا مثلا بعلاقتنا بالدين الذي هو الإسلام، وبالآخر الذي هو كل من عدا العالم الإسلامي، سواء كان ذلك الآخر متجسدا فيمنظومة فكرية، أو منظومة اقتصادية، أو ما إلى ذلك. فالجواب على سؤال بهذا العمق وهذا الشمول، هو الذي يتيح لنا رسم النموذج المجتمعي والنموذج التنموي الذي يجدر بناؤه وإرساؤه على أرض المغرب.
بالنسبة لموقف الفيلسوف الدكتور محمد سبيلا ، فإنه وافقته على ما ذهب إليه من ضرورة التريث والاتزان، وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام. ويمكننا الجزم في علاقة بسياق هذه الإشكالية، بأن المجال الثقافي الإسلامي، أو مجال الرؤية الفكرية الإسلامية ، في عمقها وصفائها وتكاملها، بوسعها أن توفر الشروط المناسبة، والمنطلقات الكافية لإصدارحكم ناضج ودقيق ذي علاقة برسالة كورونا كنازلة كبرى ملأت فضاء العالم بحشد هائل من التساؤلات ، وألقت بظلالها الكثيفة على كل حقل من حقول الحياة في المجتمعات البشرية.
فالفكر الإسلامي الذي ينطلق من قواعد راسخة تستمد من القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة، والسيرة المطهرة، كفيلة بأن تعصم المتعاملين معه من الزيغ والزلل في هذا المقام.
أما الطموح الذي عبرت عنه الدكتورة أسماء المرابط، فإنه على الرغم من ظهوره في صورة اليوتوبيا الحالمة، فإن ذلك ليس بمانعمن جعله أفقا لا تتوقف البشرية عن تعلقها به، والنزوع الائم إلى بلورته وتجسيده واقعا ينعم الناس بما يوفره من شروط الحياة السعيدة الهادئة ، ودون ذلك خرط القتاد كما يقال.
ويندرج ما عبر عنه الدكتور عبد الكريم برشيد في نفس سياق ما عبرت عنه الدكتورة أسماء المرابط، ذلك أن الطهارة الفكرية التي عن حاجة البشرية إليها، إلى جانب حاجة العالم إلى الحق والجمال، كل ذلك يحتاج إلى جهاد مرير، تقوده جبهة واسعة ممن يؤمنون بهذه المطالب السامية، ويوظف في سبيل بلوغه وتجسيده ، كل أنواع الطاقات، والوسائل والإمكانات، ذلك بأن العالم يخضع منذ زمن ليس باليسير لعملية تلوث كبرى،يشرف عليها ويسيرها جبهة عريضة من أهل المكر والفساد والطغيان، ممن اسودت قلوبهم، وشاهت وجوههم، فراحوا ينشرون الرذائل عبر العالم، ويسممون الأجواء،ويزرعون الألغام والفيروسات الفكرية والسلوكية في كل اتجاه.
أما ما دعا إليه الدكتور محمد سبيلا من ضرورة التحلي” بقدر من الحذرالإبستمولوجي في التشخيص والتفسير والتأويل على مستوى الفهم” ومن الحذر من التعجل في إصدار الحكم على النازلة، ” من مثل القول بالتفوق النهائي للحضارة الشرقية ، وسقوط الحضارة الغربية، وتفكك الاتحاد الأوروبي، وعودة المنظورات اللاعقلانية والصوفية، وهيمنة منظورات أكبر وأعظم للعدمية ومشاعر اليأس والكآبة الكونية”
فإن لدى الأمة المسلمة ما يكفي من الضوابط التي تعصمها من مغبة السقوط فيه، فالالتزام بتلك الضوابط والمعايير يؤهلها لأن تعطي لكل ذي حق حقه، فالإسلام يملك الميزان الدقيق، الذي يميز الزائف من الصحيح، والحق من الباطل، ويضع كل شيء في موضعه ونصابه.
خاتمة: إن من شأن الإنصات الدقيق لدرس كورونا البليغ، أن يمهد إلى انطلاقة جادة لتمهيد الأجواء لإعادة التوازن إلى العالم المنكوب، بجنوحه عن الصواب، وانسلاخه من الفطرة التي فطر الله الناس عليها. والمؤهل للقيام بهذه المهمة العسيرة والمقدسة، جبهة عريضة من أولي النهى والأحلام، ممن يكشفون عن سواعد الجد، يحدوهم في ذلك الاسترشاد والاستمداد من قوله تعالى:” قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)يوسف : 108).
وجدة في 21- أبريل 2020