أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

وفاة الفنان صالح ناصر.. نوستالجيا مجموعة إصفضاون..

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

المختار أعويدي
بلغ إلى علمي هنا بمدينة باريز قبل أيام قلائل، خبر انتقال الفنان صالح ناصر، عضو مجموعة إصفضاون الموسيقية الشهيرة إلى عفو الله ورحمته. وبقدرما أحزنني الخبر، بالنظر إلى أن الفقيد ورفاقه في المجموعة، وباقي الفنانين الأمازيغ الذين أغنوا الساحة الفنية، قدموا الكثير من التضحيات والعناء والعطاء، من أجل خدمة الأغنية الأمازيغية الريفية، وإثراء جانب من موروثها الفني الوطني بروائع خالدة، غاية في الجمال والإبداع، لكنهم ظلوا يعانون التهميش واللامبالاة والإقصاء، من طرف القائمين على الشأن الثقافي والفني بالبلاد، مما ساهم في توقف نشاط وعطاء وإبداع العديد من المجموعات والفنانين. لا بل وضياع رصيد كبير من إبداعاتهم الفنية الغنائية، خاصة تلك التي لم يتم تسجيلها وتوثيقها ونشرها وإذاعتها.
‏فبقدرما أحزنني هذا الخبر، بقدرما ذكرني بفترة السبعينات، ومرحلة الدراسة بثانوية عبد الكريم الخطابي. وحرك في أعماقي نوستالجيا إصفضاون الجميلة. يوم كانت هذه الأخيرة في قمة عطائها، بينما كان أعضاؤها القادمين من أزغنغان، التي كانت مشتلاً للمواهب في العديد من المجالات، خاصة الفنية والرياضية، كان وجودهم يملأ الثانوية بهجة وفرحا وفناً. فقد كانوا وهم الذين أدركوا قمة شهرتهم، وقدّموا لأقرانهم من التلاميذ والطلبة القدوة والنموذج، والتحفيز اللازم لملامسة الإبداع في المجال الفني، يقاسمونهم فضاءات الثانوية وقاعات الدرس والتحصيل.
‏أتذكر كيف أن عضوين من المجموعة كانا يدرسان معنا في نفس الفصل من قسم الشعبة الأدبية، ويتعلق الأمر بالأخ احمد معاشي، والأخ عبد الناصر أمحرف، وكانا على قدر كبير من الطيبوبة والتواضع وحتى المرح والنكتة. بينما كان المرحوم صالح ناصر والأخ مصطفى هلهول يدرسان بأقسام الشعبة العلمية. وكان خيرة أصدقائي في الدراسة وقتها – ولا زال – الذي كان يقاسمني نفس الفصل بل ونفس مقعد الدرس، هو الآخر أيضا نجما لامعاً قادماً من أزغنغان، لا بل ونجم نجوم وأيقونة كرة القدم بأزغنغان وعموم الإقليم. يتعلق الأمر بالصديق الأعز مصطفى لبيض، الذي كان موهبة سابقاً لعصره، لكنه للأسف لم ينل نصيبه من هذا التميز، نتيجة التهميش الذي كان وقتذاك يعلو ولا يُعلى عليه. وقد كانت صداقتي به سبب تعرفي على الكثير من أبناء أزغنغان، ومنهم بعض أعضاء مجموعة إصفضاون، وخاصة منهم المرحوم صالح ناصر..
لقد كانت ثانوية عبد الكريم الخطابي وقتها حضناً جامعاً ومُلتقى للعديد من المواهب، في العديد من مجالات التميز، وخاصة المجال الفني والرياضي، بعضها وافدة عليها من مختلف بلدات وقرى الإقليم، التي كانت تنعدم بها المؤسسات التعليمية الثانوية والإعدادية بسبب التهميش. ما جعل هذه الثانوية قبلة للتلاميذ الوافدين عليها من مناطق الإقليم. وتكفي الإشارة – بالإضافة إلى أعضاء مجموعة اصفضاون في المجال الفني – إلى الفنانين ميمون الوليد، والصديق العزيز علال شيلح.. وفي المجال الرياضي – بالإضافة إلى مصطفى لبيض – إلى ميمون الوهراني لاعب الفتح الرياضي الناظوري، واللاعب شوعة لاعب الهلال الناظوري.. وغيرهم كثير.
‏انتقل الفنان صالح ناصر إلى عفو الله، وفي نفسه – ونفوس رفاقه بالتأكيد – غصة التهميش واللامبلاة التي لازمت ورافقت مجموعة إصفضاون الرائعة، وسائر المجموعات الغنائية والفنانين الأمازيغ الريفيين، منذ تأسيسها. تهميش ساهم وشارك فيه الجميع، مسؤولين وفاعلين مدنيين ومؤسسات فنية وثقافية مختلفة، باستثناء بعض الجمعيات المحدودة المعدودة، وعلى رأسها جمعية المسيرة الثقافية بأزغنغان. وكذا جمعية الانطلاقةالثقافية، حاملة مشعل الثقافة والفن بالناظور وقتها، والتي لا يمكن سوى لجاحد نكران ما قامت به من دور رائد في تشجيع الثقافة والإبداع والمبدعين، في مجالات الموسيقى والمسرح والشعر.. وتحديدا لا يمكن نسيان أو نكران ما قدمه الرعيل الأول من القائمين على نشاط الجمعية، وخاصة المرحوم قاضي قدور والأستاذ قيس مرزوق والأستاذ طاحطاح من تضحيات وأياد بيضاء.. ولا يخفى أيضا دور الجمهور العاشق لإيصفضاون وإبداعاتها أيما عشق، في تقديم الدعم والدفع اللازم للمجموعة، وخاصة التشجيع والدعم المعنوي.
‏رحل “عزي” صالح وهو الذي طالما كان يجهر بهذا الأمر/التهميش، ويصرح به في العديد من خرجاته الإعلامية. لكن لا حياة لمن تنادي. رحل الفنان صالح إلى مثواه الأخير، حاملا معه هموم هذا الإقصاء والتهميش. لكنه رحل أيضا وهو فخور بما قدمته المجموعة، ومعتزا أيما اعتزاز بدورها الكبير في خدمة الأغنية والفن الأمازيغي. واستنهاض همم العديد من المجموعات والفنانين الملتزمين، السائرين على نهجها وغرارها ونموذجها. في وقت قلت فيه الإمكانيات وشحت. وضعُف فيه التحفيز والتشجيع وانعدم. وفي زمن كان فيه المخزن متغولاً، يخبط خبط عشواء. يلاحق ويطارد كل كلمة حرة أو صوت أو مبادرة ملتزمة.
‏كان رحمه الله معتزا اعتزازا كبيرا غامرا بعطاء المجموعة الزاخر، وحزينا لتفككها وتفرق السبل بأعضائها، بعد قيام المخزن في أعقاب انتفاضة يناير 1984 بالناظور، بصب كم هائل من القوة والقمع والقتل، نجم عنه مقتل ونفي وتهجير وإسكات شباب المدينة والإقليم حينها. مما شكل ضربة موجعة للنهضة الثقافية والفنية والجمعوية، التي كانت تشهدها المدينة، ومثل كبحاً وفرملة لعملية التراكم الفني والثقافي التي تمخضت عنها، والتي كانت تشهد تعاظما تدريجيا لافتاً. لقد كانت أحداث يناير 1984 حقا نكسة أجهضت بذور النهضة الثقافية والفنية الجنينية التي كانت تعرفها الناظور.
ولا عجب إذا لحق إصفضاون، ما لحق وأصاب مجموع الدينامية الثقافية والفنية بالناظور بعد أحداث 1984، من انكسار وانكفاء وجمود. فتفكك شملها وتفرقت السبل بأعضائها (هجرة – وظيفة..)، فتحولت منذئذ إلى ذكرى جميلة موؤودة، يحملها جيل السبعينات والثمانينات في قلوبهم وأرواحهم، وتتغنى بروائعها الأجيال اللاحقة. ولا غرو في ذلك، فقد كانت المجموعة نموذجا يُحتذى ويقتدى، من طرف العديد من الفنانين والمجموعات الغنائية المجايلة لها، لا بل وشباب وطلبة السبعينات والثمانينات، والأجيال اللاحقة لها.
لقد ظهرت مجموعة إصفضاون أواسط فترة السبعينات انطلاقا من بلدة أزغنغان، كتعبير عن آمال وأحلام جيلها من الوسط التلاميذي والشباب التواق إلى الفن الجميل الملتزم، وملامِسة لهمومه وأوجاعه. ظهرت في رحم الفورة الفنية والرياضية والسياسية والثقافية والجمعوية التلاميذية والشبابية لأواسط السبعينات وفي حضنها. مما أكسبها حبا جارفا لدى هذه الفئة من الشباب، المليئة بالحيوية والقوة والطموح، ومنَحها دعماً ودفعاً معنوياً دافقاً واسعاً، كان وراء الإبداعات الجميلة والنجاحات المميزة التي حققتها، ولما يزل أعضاؤها في قاعات الدرس، بين أقرانهم في صفوف تلاميذ ثانوية عبد الكريم الخطابي، القلعة التليدة التي تخرجت منها وقتذاك، أجيال وأفواج من الطلبة المتميزين في مجالات ومشارب متعددة، فنية ورياضية وعلمية وأدبية وفكرية وسياسية..
ولم يكن هذا الظهور لإصفضاون منفصلا عما كانت تموج به الساحة الفنية وقتذاك، من عطاءات فائرة زاخرة ثائرة مميزة، وما كان يتقاسم جيل السبعينات ويتجاذبه آنذاك من مشارب فكرية وفنية متعددة. كان قاسمها المشترك الثورة والتمرد ضد الظلم والقهر والتسلط والعدوان. والنضال من أجل الحرية والإنعتاق والمساواة..
‏ففي المجال الفني كان هناك منحى وتوجها عاما يطبع الموسيقى والغناء عالميا، قاسمه المشترك هو سيادة الموسيقى الشعبية، المعبرة عن هموم الطبقات المقهورة. والغناء الملتزم المعانق لقضايا الشعوب والأوطان، الداعي إلى التحرر والإنعتاق والمساواة، ورفع الظلم والقهر والاستغلال عن الإنسان. الثائر ضد الحروب والتسلط والإحتلال.. كما كان قاسمها المهيمن، هو طغيان موجة المجموعات والفِرق الغنائية، التي كانت في ذروة ازدهارها وانتشارها وعطائها على الصعيد العالمي والوطني وحتى المحلي.
‏ فعالميا كانت لندن وقتها منطلقا للعديد من المجموعات الغنائية الشهيرة التي بصمت المشهد الفني العالمي. وتكفي الإشارة إلى مجموعة البيتلز Beatles التي كانت قد هيمنت على فن الروك والغناء الشعبي طيلة الستينات، وألهمت العديد من الثورات الإجتماعية والثقافية، وهي التي انطلقت سنة 1960 وأدركت قمة شهرتها، قبل أن يطال أعضاءها التفكك مع مطلع السبعينات. ناهيك عن العديد من المجموعات الأخرى، كفرقة الروك رولينغ ستون The Rolling Stones التي كان ظهورها سنة 1962. ومجموعة بينك فلويد Pink Floyd سنة 1965. وفرقة كوين Queen لفن الروك والهاردروك، التي برزت سنة 1970. إضافة إلى المجموعات الغنائية الأمريكية، وعلى رأسها فرقة الباد بويز Aerosmith لفن الروك أند رول، التي ظهرت في مدينة بوسطن سنة 1970. وفرق عالمية أخرى عديدة، كفرقة آبا ABBA السويدية للروك. التي حققت أوج شهرتها سنة 1977 قبل أن تتفكك سنة 1982. وفرقة يوروب Europe السويدية أيضا، التي تأسست في 1979 في فن الهارد روك. ثم فرقة البوني إم Boney M لفن البوب والديسكو، التي ظهرت في أواسط السبعينات وحققت شهرة كبيرة.
‏ ناهيك عن العديد من الفنانين العالميين المتميزين، أمثال بوب ديلان الفائز بنوبل للآداب، وبوب مارلي وكات ستيفان.. وغيرهم
كما ظهرت على الصعيد العربي‏ وقتها، العديد من الفرق الغنائية من أشهرها: فرقة “المصريين” و مجموعة “الجيتس” المصريتان.
أما على الصعيد الوطني، فكانت الظاهرة الغيوانية في أوج انتشارها وشهرتها وعطائها، ألهبت خلال السبعينات مشاعر جمهور عريض جدا، وساهمت في تشكيل وعيه والإلتحام بقضاياه وهمومه، ممهدة الطريق لظهور “الأغنية السياسية”. وهي ممثلة في مجموعات ناس الغيوان جيل جيلالة ولمشاهب. ناهيك عن مجموعات الإخوان ميكري، أوسمان، تكدة، إزنزارن والسهام..
لقد كان ظهور مجموعة إصفضاون وسط كل هذا الزخم الفني، الذي كانت تتجاذبه وتتقاذفه تيارات وأمواج غنائية يجمعها أو يكاد، منحى الإلتزام بقضايا الشعوب والاوطان والطبقات الإجتماعية المقهورة. ظهرت متأثرة بشكل أو بآخر بهذا الزخم الكبير، الذي كان يطبع فن الموسيقى والغناء، كأولى المجموعات والفرق الغنائية الأمازيغية في منطقة الريف، التي تغنت بالهوية الأمازيغية، وبقضايا وهموم المواطن، لكنها أيضا بصمت المرحلة بطابعها ولونها الخاص. وبرزت إلى جانبها مجموعات بنعمان، إينومازيغ، أيريزام، ثيذرين (الحسيمة)، تواتون (الحسيمة). ناهيك عن فنانين كبار أمثال الوليد ميمون، وفي وقت لاحق الفنان إيزري وعلال شيلح وميمون رفروع…
وقد حققت فرقة إصفضاون انتشارا كبيرا في الوسط التلاميذي والشبابي عموما، بالنظر لميلادها في رحم هذا الوسط، وتبنيها لخطاب موسيقي وفني جديد وملتزم. برغم ضعف ما توفر لها من إمكانات، وانعدام الدعم والتشجيع لها من قبل المسؤولين. وبرغم ذلك أدركت نجاحات كبيرة، مكنتها من المشاركة في العديد من الحفلات والسهرات الفنية داخل وخارج المدينة (ثانوية عبد الكريم الخطابي- ثانوية الكندي – سينما فيكتوريا (رويو) – جامعة محمد الأول، مدينة مليلية، الحسيمة..) وفي التظاهرات الفنية، كمهرجان الأغنية الشعبية، الذي كانت تنظمه جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور سنويا قبل إجهاضه. إضافة إلى المسابقات الفنية، كمهرجان أضواء المدينة، الذي فازت فيه بأدوار متقدمة وبمرتبة محترمة، مكنتها من الغناء فوق خشبة مسرح محمد الخامس بالرباط، كأول فرقة أمازيغية ريفية إلى جانب فرق موسيقية كبرى آنذاك (إزنزارن – بوشناق..) ومن تسجيل بعض أغانيها (أغارابو نغ – سبحان الله العظيم) من قبل الإذاعة والتلفزة المغربية.
ولا زلت أتذكر يوم تم عرض إحدى أغاني المجموعة على شاشة التلفزة المغربية، وكانت المرة الأولى وربما الأخيرة التي تم عرضها، وكنت وقتها رفقة بعض الأصدقاء في مقهى الريف بالعروي، التي كان يديرها آنذاك المرحوم الحاج الأمين البوديحي، متحلقين حول رقعة لعبة “البارتشي”، عندما فوجئنا بعرض الأغنية على شاشة التلفزة، وكانت وقتها بالاسود والأبيض، ذات مساء من سنة 1979 إذا لم تخنني الذاكرة، وكيف كان هذا الحدث كبيرا واستثنائيا بالنسبة إلينا. كيف لا، وقد كان هؤلاء الذين كانوا يغنون أمامنا على شاشة التلفزة، ويتفرج عليهم كل الشعب المغربي، هم من أبناء منطقة انتمائنا بالريف، وتحديدا إقليمنا الناظور، وهم يغنون بالأمازيغية لغة الريف الأم..! لا بل وأكثر من هذا، فهم أصدقاؤنا وزملاؤنا في ثانوية عبد الكريم الخطابي. زد على كل ذلك، أنهم كانوا يترجمون من خلال أغانيهم، همومنا وأحلامنا وآمالنا وطموحنا، كتلاميذ وشباب تلك المرحلة المليء بالحماس والطموح.
حقا كان بث الأغنية حدثا غير عادٍ بالنسبة لنا.. فقد كان سرورنا جارفا عارما بهذا الحدث. واتذكر كيف انصرف اهتمامنا عن قطعة “البارتشي” لعبتنا المفضلة التي بين أيدينا، وكيف تسمرت عيوننا على شاشة التلفزة، ننصت للأغنية ونردد مقاطعها مع المجموعة، وهي تصدح بها، وقد تملكنا شعور غامر بالإعجاب والزهو والإفتخار. ولا عجب، فقد كانت إصفضاون التي فازت في مسابقة أضواء المدينة أمام مجموعات شهيرة، وظهرت على شاشة التلفزة، كانت مصدر قدوة وإلهام بالنسبة لنا. وقد كان ظهورها وقتها على شاشة التلفزة المغربية، التي لم تكن مدة بثها اليومية الكاملة بالكاد تبلغ 4 ساعات في اليوم، كان يُعد ضربا من المستحيل، بالنسبة لفرقة صغيرة قادمة من المغرب العميق وقتذاك، من بلدة ازغنغان. هذا في الوقت الذي كانت الساحة الفنية وقتذاك، تعج بفرق غنائية كبرى وشهيرة، كناس الغيوان وجيل جيلالة ولمشاهب والإخوان ميكري..
لقد نجحت إصفضاون في إدخال البهجة والفرحة على عاشقيها من تلاميذ وشباب جيل السبعينات، وتحولت إلى نموذج يقتذى. لا لشيء، سوى لأنها غنت أغانٍ شعبية بألحان وإيقاعات جميلة، مستمدة من التراث الأمازيغي، مستعملة قاموسا شعبيا وكلمات بسيطة، لكنها بدلالات وحمولات كبيرة، ومعانٍ ذات مغازي عميقة تلامس نبض الشباب، وتغازل أحلامهم وأمانيهم. في زمن كان للموسيقى عامة وللأغنية الملتزمة تحديدا سطوتها السحرية المؤثرة في النفوس والأرواح.
وقد كان لرائعة “أغارابو نغ” تحديدا، كما لغيرها من أغاني المجموعة وقتذاك، الوقع السحري على شباب تلك الفترة. الجميع يردد كلماتها البليغة الجميلة ويتغنى بها. ويحاول فهم معانيها ومغازيها العميقة الدلالة.
لقد رسمت إصفضاون بأغانيها الجميلة البسمة والأمل على وجوه عشاقها ومحبيها الكثر، وساهمت بشكل أو بآخر، في بناء وتشكيل وعيهم. وحتى بعد تفككها وتوقف مسيرتها استمر بريقها الفني، حيث ظلت أغانيها حاضرة في ذاكرة جيل السبعينات والأجيال التي أعقبتها، تؤثر فيها وتفعل فيها. برغم عدم قيام المجموعة للأسف، بالنظر لغياب الدعم والمساندة، بتسجيل وتوثيق كامل إرثها ورصيدها الغنائي، اللهم ما قامت به الإذاعة والتلفزة المغربية بالنسبة للأغنيتين المذكورتين سالفا، واللتان بقيتا مع ذلك حبيسة أرشيفها التسجيلي طول هذه المدة وإلى اليوم.
ومن الطرائف الجميلة التي علقت بذاكرتي بشأن أغنية أغارابو نغ الرائعة، هو أنني كنت في وقت ما من سنة 1980 نزيل مستشفى Cruz Roja بمدينة مليلية، حيث أجريت لي عملية جراحية وقتها هناك. عندما جيء بمريض سوداني كي يقاسمني الغرفة التي تتسع لسريرين. تعجبت للوهلة الأولى كيف انتهى الأمر بسوداني، تبعد بلاده عن المنطقة بأميال وفراسخ، طريح فراش مستشفى بمدينة مليلية. لكن ذلك سرعان ما تبدد، عندما علمت من صديقي السوداني، الذي كان يدعى حيدر، وينحدر من مدينة أم درمان بجوار العاصمة الخرطوم. أنه يعمل مهندسا بحريا على ظهر سفينة تجارية سودانية، وأنه قد تعرض لحادث شغل في رجله فوق ظهر السفينة، في عرض البحر قبالة سواحل الناظور ومليلية. فتم نقله على وجه السرعة إلى المدينة السليبة للإستشفاء، لأن مدينة الناظور لم تكن بها وقتها بنية بحرية قادرة على استقبال السفينة السودانية.
كان الرجل على قدر كبير من الطيبوبة والأخلاق والتواضع، وهو المهندس البحري الناجح، في زمن لم يحصل أن قابلتُ أو كلمتُ فيه مهندسا قط.
‏كنا نتبادل أطراف الحديث في قضايا مختلفة للترويح والتخفيف عن أحوالنا الصحية السيئة، منها موضوع الغزو السوفياتي لأفغانستان، وكان حديث الوقوع وقتها وحديث الساعة ايضا. وكنت بين الفنية والأخرى، أدندن مرددا أغنية “أغارابو نغ” لمجموعة إصفضاون، التي كانت في قمة الشهرة والإنتشار. وكان صديقي السوداني لا يفهم شيئا مما أغني، لكن نباهته قادته إلى استجلاء كلمة واحدة من الأغنية، هي “ربحار” (البحر)، التي سألني عن مدلولها وطبيعة اللغة التي أدندن بها. فقد أدرك بنباهته أن الأمر يتعلق بالبحر.
‏عرَّفت صديقي السوداني عن كلمات الأغنية والمجموعة التي تغنيها. وأوضحت له أن الأمر يتعلق بأغنية أمازيغية تعالج قضية معينة، لكن بلغة رمزية يحضر فيها البحر والمركب (السفينة) والركاب وما إلى ذلك من تفاصيلها. وكنت أحفظ الاغنية عن ظهر قلب، بل وكنت أغنيها قبل أن أصبح طريح المرض والفراش، مستعينا أحيانا بقيثارة.
وبالنظر لكون صديقي هذا، كان رجل بحر بامتياز، فقد اهتم بمضمون وتفاصيل الأغنية، لا بل وحفظها كاملة في مدة قياسية عن ظهر قلب، بعدما أمليتُ كلماتها عليه، فكتبها على قطعة ورق، مرفقة بترجمتها الكاملة إلى العربية.
ولم نكد نفترق أنا وصديقي حيدر، بعد انتهاء مدة استشفائه، وبعد حوالي عشرة أيام من الرفقة الطيبة في المستشفى، إلا وكان الرجل قد حفظ الأغنية، التي افتتن بها، وأعجب بمضامينها البليغة ولحنها الجميل، كاملة حفظاً تاماً، كلمات ولحناً، بل ويرددها بلكنة سودانية جميلة. وقد وعدني قبل توديعي، لأنه غادر المستشفى أولاً، بأنه سيغنيها لزملائه في العمل على ظهر السفينة.
‏وبعد تراسل فيما بيننا لمدة ليست بطويلة، بسبب تهاوني وتكاسلي في الردود، كنت في ذلك مقصرا. انقطعت أخبار صديقي حيدر، لكن ذكراه الجميلة، لم تنقطع. وظل مجرد إسم مجموعة إصفضاون، وتحديدا رائعتهم “أغارابو نغ”، تذكرني بذكراه الجميلة، ذكرى الآلام والأوجاع الصحية التي تقاسمناها، والتي يسرت لقاءنا ذات يوم من عام 1980، في مستشفى مدينة مليلية السليبة Cruz Roja.

________________

“هذه المقالة مهداة إلى روح الفنان المرحوم صالح ناصر، وإلى باقي أعضاء مجموعة إصفضاون.”

ملحوظة : لقد كتب الجزء الأكبر من هذا المقال المتواضع من فوق السحاب على جناح طائرة، في رحلة سفر من باريز إلى إستانبول.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock